يمثل جوزي ساراماجو (1922-2010) نابغة البرتغال في فن الرواية مع قرينه الشاعر فرناندو بيسوا Fernando Pessoa (1888-1935) مدرستين أدبيتين متميزتين في الأدب العالمي الحديث. وإذا كان بيسوا صاحب نظرة فيها الكثير من الإنطوائية على الذات، فإن ساراماجو كان وما زال مثيرا للجدل في الوسط السياسي والأدبي بحكم ميله إلى اتخاذ أشد المواقف تطرفا. ولعل آخرها يتمثل في هجمته النقدية اللاذعة على رئيس وزراء إيطاليا برلسكوني. وبالفعل، فقد رفضت منشورات (إينودي) التي تعودت على طبع رواياته المترجمة إلى الإيطالية نشر روايته الأخيرة لأن الذي يمتلكها إنما هو برلسكوني. وقد علق ساراماجو على هذا الرفض بما معناه إن عائدات روايته لا تكفي لشراء ما يحتاجه رئيس وزراء إيطاليا من السيجار الفاخر وغيره من الكماليات الأخرى. دخل ساراماجو عالم الرواية بعد سقوط ديكتاتورية سالازار في البرتغال، تماما مثلما جاء الروائي الإيطالي الصقلي (ليوناردو تشياشيا Lonardo Chiacchia) إلى عالم الرواية بعد انهيار فاشية موسوليني. لكن ميزة ساراماجو تكمن في الجبهات المختلفة التي فتحها ضد الديكتاتورية في بلده وضد الحكومات الفاشية في أوربا بأكملها. لكنه لم يكتف بأن يكون تقريريا في رواياته، بل عمد إلى الأخذ بما هو خيالي مثير لبلوغ غاياته الفنية والسياسية في آن واحد. والقارىء يلمس ذلك في رواياته (الطوف الحجري) و(العميان) و(الإنجيل وفقا للمسيح) وغيرها من إبداعاته القصصية الأخرى. الموضوع السياسي عنده يتخذ أشكالا وأشكالا، ولكنه لا يصبه ضمن قالب واحد، بل إنه يسعى إلى ابتداع طرق جديدة في السرد قد تكون قريبة من عالم السرياليين، لكنها ذات ارتباط وثيق بالواقع. فلا عجب في أن يجتذب انتباه لجنة تحكيم جائزة نوبل للآداب التي كانت من نصيبه في عام ,1998 ولا عجب أيضا في أن تترجم رواياته إلى أغلب لغات العالم. وذلك ما يعني أن اهتمام القراء يظل منصبا على كل ما هو سياسي في فن الرواية سواء اتخذ الخيال مطية لتجسيده، أم أبرز الواقع بجميع علاته وبدون زخرفة. والملاحظ هو أن العالم العربي الذي يصطخب بكل ما هو سياسي ويتطلع إلى التحرر والإنعتاق لم يقرأ روايات ساراماجو بعد على الرغم من أن عددا منها انتقل إلى اللغة العربية في ترجمات دقيقة. فهل من الصحيح القول إن الرواية أزاحت الشعر عن عرشه في هذا العالم العربي بينما لا تجد كبريات الأعمال الروائية العالمية طريقها إلى نفوس القراء؟ لقد تعرفنا على أدب أمريكا اللاتينية عبر كتابات غارسيا ماركيز Garcia Marque« وأغستو روا باستوس Augusto Roa Bastos و كارلوس فوانتس Carlos Fuentes وغيرهم من أولئك الذين عالجوا موضوع الدكتاتورية في المقام الأول، لكن أدب البرتغال الحديث، أي ذلك الذي كان وراءه ساراماجو وفرناندو بيسوا وغيرهما ما زال مجهولا لدى القارىء العربي. ولا شك في أن ساراماجو جدير بالقراءة عندنا لأنه عرف كيف يعالج موضوع التسلط في بلد كان آخر البلدان الأوربية التي تحررت من الجزمة الدكتاتورية، ونعني به البرتغال.