(ويليام شتايرون William Styronَُْ)، نابغة أمريكا في فن الرواية خلال القرن العشرين ومطلع هذه الألفية الثالثة، ينطلق من تقرير قضائي موجز ليكتب روايته الفذة (اعتراف نات ترنر Confessions of Nat Turner(، ويحدث بعدها جعجعة لا نظير لها في دنيا الأدب الأمريكي. وبالفعل، قرأ هذا التقرير على طريقته، وأبحر في عالم الخيال لينسج رواية شجاعة حقا وصدقا. ونات ترنر هذا ليس سوى ذلك العبد الذي أبق، وانطلق في البرية الأمريكية في عام 1831 ليجمع عددا من الثائرين المغبونين من أمثاله. والتاريخ يقول إن ثورته لم تستمر أكثر من شهر واحد، ألقي عليه القبض بعدها، وحوكم مع أقرانه من المتمردين، ونفذ فيه الحكم بالإعدام شنقا. أجمل ما في رواية شتايرون هذه هو أنه وضع نفسه موضع ذلك الزنجي الثائر على أسياده، ووضع تصوراته عن حركته التمردية، وعن أوضاعه النفسية في وقت واحد. ولذلك، فإن أقرانه من الروائيين الأمريكيين البيض لم يعجبهم الحال، بل إن الكتاب السود أنفسهم نظروا إليه نظرات ناقدة لائمة لأنه تجرأ وألقى بنفسه في دوامة لا يعرف تضاعيفها وخطورتها سوى الإنسان الأسود نفسه. ولم يجد شتايرون من يعضده إلا الروائي الزنجي (جيمس بالدوين James Baldwin) ذلك الذي رأى في روايته تلك خرقا لكل ما هو تقليدي في فن الرواية بالذات، وفي الأدب الأمريكي كله. وذلك كله يعني أن فن الرواية يتسع لجميع المعالجات، وما عاد يرضى بالبنية التقليدية الكلاسيكية التي كان لها دورها في القرن التاسع عشر. ما عادت الرواية مجرد قصة يرويها راو أو ترويها راوية، ولذلك تعددت أشكال السرد القصصي، أو تزاوجت فيما بينها، واستخدمت العديد من الفنون بدءا من التعبير الموسيقي والنحت والفن التشكيلي والتركيب السينمائي. وما كان من السهل بالنسبة لويليام شتايرون أن يتخذ جلدة إنسان زنجي ثائر لقي الأمرين من أسياده في الضيعة التي كان يعمل بها مع غيره من العبيد الآخرين. كما أنه كان من الصعب عليه بمكان أن يضع نفسه موضع يهودية وقعت بين أيدي النازية خلال الحرب العالمية وعذبت عذابا نكرا، لكن ذائقته الفنية تغلبت في نهاية المطاف، وتمكن من كتابة رواية لا تقل شأنا عن (اعترافات نات ترنر) حين نشر روايته الشهيرة (اختيار صوفي). وخلاصة القول هي أن الرواية فن سهل بمقدار ما هي فن بالغ الصعوبة والتعقيد، إذ المهم في الأمر كله هو النظرة الرفيعة إلى كل ما هو إنساني في المقام الأول، ثم الذوق الفني مع الإبحار نحو عوالم لم يعرفها الروائيون الآخرون بحكم أن التميز في هذا الشأن هو الذي سيبقى سيد الموقف. وذلك يعني أيضا أن أبسط المواضيع الإنسانية يمكن أن تتحول إلى فن رفيع مثلما أثبت ذلك ويليام شتايرون وغيره من أباطرة السرد الروائي والقصصي في الأدب العالمي المعاصر.