وإنما أحببت الدخول إلى موضوع الموروث الشعبي في الرواية الجزائرية عبر هاتين البوابتين المؤلمتين، بوابة الطاهر جاووت، وبوابة رشيد ميموني. وأوجز القول في هذا الصدد أن التراث الشعبي موجود في الرواية الجزائرية والعربية بصورة تلقائية. لو رجعنا إلى مؤلفات ميموني، على سبيل المثال، للفت انتباهنا أمر واحد، وأعني به عنوانين اثنين من إبداعه الروائي والقصصي: تومبيزا Tombéza، كلمة شعبية حتى وإن كانت ذات وقع لاتيني. وهي تعني الطفل السمين أو الطفلة الربلة المكتنزة. وما أكثر ما كنا نستعملها في طفولتنا، وهاهو رشيد ميموني يجيء إلى عالم الأدب ليجسدها وليثبت تواصله بصورة تلقائية مع الواقع الذي يعيشه. وكلمة حزام الغولة La ceinture de l.ogresse، كلمة معروفة هي الأخرى حتى وإن هي لم تعد مستعملة في أيامنا هذه بعد أن عربناها وصرنا نقول قوس قزح أو Arc en ciel . وذلك يعني أن الروائيين عندنا، ومن بينهم رشيد ميموني، يوظفون التراث إما بطريقة تلقائية أو بطريقة عقلية يحسبون لها ألف حساب إن صح التعبير. شخصيا وظفت نفس الطريقة عندما وضعت روايتي (يحدث ما لا يحدث)، يصرى اللى ما يصراش. وهناك توظيف عقلي متعمد، وأعني به ذلك الذي ينطلق من التراث الشعبي أو التراث العربي الكلاسيكي ليسقطه الروائي على الواقع الذي يعيشه في أيامنا هذه. وكثيرا ما يكون هذا الإسقاط سياسيا اجتماعيا. وأعني به على سبيل المثال، الطاهر وطار في روايته الحوات والقصر، ورشيد بوجدرة في روايته التي عربتها (ألف عام وعام من الحنين) Les mille et une année de la nostalgie ومحمد ديب في روايته سيد المقام Le maître de châsse، ورواية (الأمير) للأعرج واسيني، التي كانت إسقاطا على الواقع السياسي الجزائري بعد الاستقلال وعلى الواقع الفكري العربي بصورة عامة، خاصة فيما يتعلق بالحوار بين الحضارات، ورواية الزميل جيلالي خلاص (قرة العين)، التي ليست إلا ترجمة أو تعريبا لكلمة (ممو العين)، والشاعر أزراج عمر في ديوانه (وحرسني الظل) أثعوسيي ثيلي، وعبد الحميد بن هدوقة في روايته (الجازية والدراويش) وعبد الحميد بورايو في قصصه القصيرة، وهكذا دواليك.هذا التوظيف يعني ضمن ما يعنيه في رأيي هو أننا نضرب بجذور عميقة الغور في كل ما يتعلق بهويتنا، لا للتساؤل حولها، بل لترسيخها وتأكيدها. ومعنى ذلك أننا مرتبطون بجذورنا حتى وإن استخدمنا شكلا أدبيا حديثا، أي الشكل الروائي. وإذا كان الناقد الماركسي الهنغاري جورج لوكاتش يزعم أن الرواية لا يمكن أن تولد وتترعرع إلا في مجتمع بورجوازي، فإن أدباء الجزائر، وما يسمى بالعالم الثالث عموما، تلقفوا هذا الفن التعبيري على الرغم من أنهم ينتمون إلى مجتمعات متخلفة اقتصاديا، بمعنى أنها مجتمعات لا علاقة لها بأي محيط بورجوازي. وإنجازاتهم الروائية في هذا الشأن معروفة ومشهود لها عبر العالم كله. أحسب أن مشكلتنا الحقيقية في مجال التعبير الروائي قائمة في الأداة اللغوية بالذات. فالذي يعالج فن الرواية، باللغة العربية على وجه الخصوص، يجد صعوبات جمة في نقل الواقع بالتمام والكمال، ذلك لأن حياتنا اليومية في مجملها موجودة في هذا التراث الشعبي بالذات، وفي اللغة الدارجة التي نوظفها، سواء أكانت عربية أم أمازيغية أم فرنسية، أم خليطا بين هذه اللغة وتلك. وعليه، فإن معظم التعابير والصور الشعرية تضيع منا في أثناء الصياغة الروائية بحيث إننا قد نعجز عن إيجاد المقابلات اللغوية الشعبية باللغة العربية الفصيحة، والسبب فيما أراه قائما في أننا ما زلنا نسعى إلى صياغة أنفسنا بأنفسنا حتى يكون تفكيرنا الروائي تلقائيا. (يتبع)