لكل شيء في عصرنا هذا ثمن، فالرفاهية والتربية والتثقيف كلها عمليات اجتماعية لا يمكن إشباعها بالمجان، ما يدعو الأسر إلى تخصيص حصة من الميزانية المالية لوسائل التثقيف والتسلية المستجدة في الوقت الحالي.. لكن هل بوسع الأسرة الجزائرية أن تستجيب لمتطلبات أبناء اليوم الذين ترعرعوا في زمن الوسائل التكنولوجية المتعددة والتي ليس أقلها الهاتف المحمول والكمبيوتر والهوائيات المقعرة؟ كان ل ''المساء'' حديث مع بعض الأولياء بخصوص هذا الموضوع، وكانت الفكرة العامة المشتركة تشير إلى أن العديد من الأولياء يستسلمون لطلبات صغارهم خوفا من جرح مشاعرهم رغم ضريبة الضغط المالي التي تجبرهم على ابتكار حلول تحول دون استنزاف الميزانية المالية. بين مطرقة الإمكانيات وسندان مشاعر الأبناء تكشف السيدة ''جازية.ن'' وهي موظفة، أنها لا تمتنع عن الاستجابة لمتطلبات طفلها الضرورية والتربوية، مبرزة أن صغيرها الذي لم يتجاوز خمس سنوات يلح عليها باستمرار لتقتني له جهاز كمبيوتر وهاتفا نقالا، ذلك أن تأثره بالأفراد المحيطين به اجتماعيا يحمله دوما على التساؤل: لماذا لا أمتلك هاتفا نقالا وجهاز كمبيوتر مثل غيري؟ وتوضح محدثتنا: ''أجدني في أحيان كثيرة مضطرة للاستجابة لمتطلباته، والآن أفكر في اقتناء جهاز كمبيوتر له، لأنه صار ضرورة عصرية، فرغم أنها تزيد الضغط على ميزانية الأسرة المالية، إلا أنه لا مفر من التقشف أو التخلي عن بعض الاحتياجات غير الملحة لتلبية احتياجات طفلي التربوية والترفيهية حتى لا يشعر بأنه متخلف عن أقران العصر الذي يعيش فيه''. وترى ''أم منى'' أن الأسرة حاليا مطالبة بمواكبة التطورات العصرية، ومنها التكنولوجية التي لا يمكن غض الطرف عنها، لاسيما وأن طبيعة الصغار الذين لا يفهمون انشغالات الكبار المالية تحتم في العديد من الأحوال الانصياع لرغباتهم حتى وإن كان الوضع المالي صعبا ويدفع إلى الاعتماد على الدفع بالتقسيط. وتستكمل حديثها قائلة: ''بعض الوسائل الترفيهية والتثقيفية تعتبر في نظري محفزا لالتزام الطفل بالتعلم والمطالعة، لكن مساوئها تتطلب الرقابة المستمرة، كما أن الأضرار الجسدية والنفسية لبعضها تدعو إلى الانتقاء قبل الاقتناء''. السيد ''هشام.ك'' يؤيد فكرة أن منتجات العصر التكنولوجية أصبحت ضرورة لأبناء اليوم، خاصة وأن مستوى تفكيرهم في هذه المرحلة يحملهم على المقارنة مع بعض الأقران.. يقول: ''ابنتي تلح علي منذ فترة لأشتري لها جهاز الإعلام الآلي مع تزويده بخدمة الأنترنت على أساس أن عدة زميلات لها يمتلكن هذا الجهاز، وهذا الطلب شكل ضغطا علي، لأن ميزانيتي لا تحتمل ذلك، ولم أجد مخرجا آخر غير الاعتماد على الدفع بالتقسيط رغم أنني لا أحب هذه الطريقة''. وبرأي الصحفي ''عبد الحميد.ل'' فإن العديد من العائلات الجزائرية تبقى عاجزة عن الاستجابة لاحتياجات الأبناء التثقيفية والترفيهية التي جاء بها زمن التطور التكنولوجي السريع بسبب ضعف القدرة الشرائية من جهة، والخوف من الآثار السلبية للتكنولوجيا الحديثة من جهة أخرى.. وبين هذا وذاك يسيطر الشعور بعدم الرضا على الكثير من الأولياء الذين يخشون أن تصيب عقدة النقص أطفالهم الذين يتأثرون كثيرا بغيرهم ويسعون إلى تقليدهم. أنماط الاستهلاك الجديدة تضاعف الإنفاق الأسري وبحسب دراسة لكل من الدكتورين محمد بومخلوف ومحمد رؤوف القاسمي الحسني والأساتذة بوزيد صحراوي مختار جعجيع وحورية سعدو حول ''التحديات التربوية في الوسط الحضري''، فإنه انطلاقا من المنظور الاستهلاكي الأسري كانت الوسائل الثقافية تصنف ضمن خانة الكماليات بالنسبة للحاجيات الأساسية للأسرة الجزائرية، غير أن التحولات التي حدثت في ثقافة الأسرة الجزائرية الحضرية جعلتها تتجه نحو السعي أكثر فأكثر إلى اقتناء الوسائل المادية والمعنوية التي تشبع الحاجات التربوية والترفيهية أو ''الترويحية'' حسب الاصطلاح السوسيولوجي. وتتمثل هذه الأنواع الجديدة من الاستهلاك في الأجهزة الصناعية والإلكترونية على الخصوص، كالتلفاز والصحون المقعرة والهاتف المحمول والحاسوب والفيديو وغيرها من الوسائل التي ينبغي أن تتوفر في كل بيت ولكل أسرة. فما كان يعد من الحاجات الثانوية في الماضي، صار اليوم من الأولويات في حياة الأسرة اليومية، وتوفرها لم يعد أمرا ضروريا بالنسبة لعلاقة الآباء بالأبناء، بل لعلاقة الأبناء بالمحيط الاجتماعي الذي يتفاعلون معه يوميا، بمعنى أن توفر الوسائل الترفيهية أصبح يلعب دورا كبيرا في عملية تكييف الفرد مع المحيط الاجتماعي، فجهاز التلفزيون مثلا وسيلة تربوية وتسلية في آن واحد، حيث أصبحت وسائل الترفيه والتسلية ملازمة لدور الأسرة التربوي، ووسيلة تشد الأطفال إلى كنف البيت كي لا يجذبهم الشارع إليه أو يقعوا في أيدي رفقاء السوء وبعض مؤسسات الترفيه على غرار قاعات الأنترنت والألعاب الالكترونية والتي يرى العديد من الأولياء أنها ترسخ قيما سلبية. ولمواجهة هذا التحدي صارت الأسرة ملزمة بتوفير وسائل الجذب الخاصة، لاسيما وسائل الترفيه والتسلية، لكن توفر هذه الوسائل يرتبط هو أيضا بعوامل مادية (مستوى الدخل) وأخرى لامادية (وقت الفراغ) تشكل عند ندرتها نوعا من الضغوط على الأسرة. ويلاحظ في وقتنا الحاضر أن الأسرة الجزائرية الحديثة تعاني من مشكلة توازن الإنفاق الأسري أو ما يسمى بالاقتصاد المنزلي، فاقتصاد السوق ينشئ حاجات جديدة باستمرار عن طريق المنافسة والإشهار للسلع والخدمات، لاسيما في مجال الترفيه والتثقيف، فتتغلغل هذه الحاجات في اتجاهات الأفراد تدريجيا إلى أن تصبح جزءا من سلوكهم الاقتصادي، وبالتالي تؤدي إلى مزيد من الإنفاق وإضافة أعباء جديدة لم تكن الأسرة تتوقعها من قبل. وتكشف الدراسة أن سرعة تجدد أساليب العيش المعاصرة تنشئ حاجات جديدة للتكيف مع الحياة المعاصرة، وبالتالي تظهر أنماط جديدة للاستهلاك، إذ تعد شريحة الشباب والمراهقين الأكثر تأثرا بهذه الظروف الجديدة، وبموجب ذلك يواجه الجيل الأول (أي الآباء) طلبات جديدة من قبل أبنائهم. وقد يشعر بعض الأبناء بأنهم محرومون عندما لا يتمكن الأولياء من تلبية حاجياتهم من ترفيه أو غيرها من المتطلبات المعاصرة بالنظر إلى الآخرين من أترابهم، ما يؤدي إلى حيرة الآباء لاسيما إذا كانت قدراتهم المالية لا تفي بهذه الحاجات.