ما فتئت السياسة تطارد أهل الفن والعلم معا. فلا الذين يهيمون عشقا بعوالم الجمال ينجون من قبضتها الأخطبوطية، ولا الذين يقضون أجمل أيام العمر في المختبرات وفي مواجهة المعادلات المعقدة يفلتون من حبائلها الجهنمية. وقد رأينا كيف وقع العالمان الفيزيائيان (ألبرت إينشتاين) و(روبرت أوبنهايمر) تحت وطأة أهل السياسة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الفائت حين جندوهما لوضع التصورات عن القنبلة الذرية. قائد الأوركسترا العبقري (ويلهام فورتفانجلرWilhelm Furtwangler) وقع في هذه الشبكة الأخطبوطية مكرها مرغما. فلقد جنده (أدولف هتلر)، وجعل منه قائد الأركسترا الفيلهارمونية ببرلين منذ صعود نجمه عام .1933 وكان يحلو له أن يتأمل حركات هذا الموسيقار وهو يقود الأوركسترا لتأدية سمفونية بتهوفن الخامسة عشية كل هجوم يشنه على موقع من مواقع أعدائه عبر أوربا. وإذا كانت السياسة متسامحة مع ألبرت إينشتاين وأوبنهايمر وغيرهما، بل وحتى مع العالم (فون براون)، ذلك الذي ألقي القبض عليه بعيد الحرب العالمية الثانية وتم توظيفه في المختبرات الأمريكية، فإنها لم ترفع قلمها عن فورتفانجلر، لاسيما وأن هناك مقاطع من أفلام تصوره وهو يقود أوركسترا برلين بحضور (الفوهرر) وأعضاء قيادته، وبحضور النخبة من أهل الحكم والفكر والفن في ألمانيا. هناك مقطع مصور يمثل فورتفانجلر وهو يقود الأوركسترا قبيل وفاته بشهر واحد في عام ,1954 ويؤدي فيه جزءا من (جياد فالكيريا) للوسيقار الفذ (ريتشارد فاجنر Richard Wagner). وهناك مقطع آخر يصور قائد الأوركسترا الإيطالي (توسكانيني Toscanini) وهو يؤدي نفس المقطع من نفس القصيد السمفوني في عام .1848 لكن يبدو أن أداء الأول أقرب إلى الصدق والتكامل من أداء الثاني بحكم أنه ألماني الروح في المقام الأول. وقد دافع فورتفانجلر عن نفسه بعد أن ألقي عليه القبض في عام 1945 في نطاق حملة تطهير ألمانيا من بقايا النازية. وواجه هيئة أمريكية من المحققين أرادت أن تثبت مشاركته في الجريمة الهتلرية. لكنه قال بالحرف الواحد: ما كنت أعرف شيئا مما كان يحدث. وما كان في مقدوري أن أغادر بلدي، فأنا موسيقار، وأخدم الموسيقى وأخدم بلدي ليس إلا. والظاهر أن اليهود هم الذين كانوا وراء محاولة تجريمه، وليس أدل على ذلك من أنهم عملوا المستحيل لكي لا توجه له أية دعوة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية. والسؤال المطروح هو التالي: هل في مقدور أهل الفن والعلم أن يفلتوا من قبضة هذه العجوز الشمطاء التي يقال لها السياسة والتي صاحبت الإنسان وما تزال منذ بدايات الخلق الأول؟