يطالب الفنان الشعبي بوفروم كمال، بضرورة الدفاع عن أصالة فن الشعبي وحماية ذاكرته وقواعده من التحريف أو القرصنة، مع إبعاد المتطفلين من ساحته، كما دعا إلى النهوض بهذا الفن -الذي يمثل جزءا من هويتنا الثقافية- من خلال إشراك خبراء الموسيقى والشيوخ الأكفاء، ''المساء'' التقت بالفنان الذي أثار جوانب مختلفة متعلقة بالفن الشعبي. - يتعرّض ''الشعبي'' اليوم لحملة منظمة من التشويه والسلب، خاصة من الناحية التاريخية، فما تعليقكم؟ * بالفعل، والهدف من ذلك هو ضرب هويتنا الثقافية المتجذرة من جهة، ومن جهة أخرى، سرقة هذا التراث علنا في غفلة منا. فمثلا يحاول اليهود، خاصة ممن عاشوا بالجزائر، نسبة الشعبي إليهم كتراث خاص بهم، وحجتهم في ذلك الفنان »ليلي العباسي« المولود سنة 1897 بمرسيليا، والذي كان مع أسرته بمدينة سيدي بلعباس، والده موسيقي قديم اشتهر بالمغرب، وهنا يتضح أن »العباسي« سبق العنقى في فن الشعبي، وهكذا يرى اليهود أن الشعبي تراثهم، والغريب أن أهل هذا الفن -الجزائريون- غافلون عن ذلك. إن »الشعبي« فن واحد ووحيد، ليس شبيه أية موسيقى أخرى في العالم، يحمل خصوصية جزائرية بنسبة 100 بالمائة، ولا يرتبط بأي نوع موسيقي آخر أبدا، ومحاولة ربطه بأنواع موسيقية أخرى تحريف له. صحيح أن »العباسي« سبق الشيخ العنقى، لكنه لم يبدع فن الشعبي أبدا، علما أن العنقى عمل مع العباسي في فرقته كعازف، ثم غنى له قصيد »يابشار نعطيك برية« الذي غناه فيما بعد الفنان حميدو ونصر الدين شاولي. - إذن -حسبكم- ما هي الحجة في أن »الشعبي« فن جزائري خالص؟ * إن مؤسس الشعبي في الجزائر، هو الراحل قويدر بن اسماعيل، شيخ القصبة كما عُرف، وقد سبق بكثير »العباسي«، وكان أول من أدخل آلة وترية على فرقة الشعبي، وهو من ألف القصيد الشعبي »الوالي سحنون«، كما أن والده محمد بن اسماعيل كتب القصيد المعروف »الفراق«، وكلا القصيدين غناهما الراحل العنقى، بعد الراحل قويدر، ظهر في نهاية القرن ال 19 الفنان الراحل محمد سفينجة في فن الأندلسي، وله تساجيل شاهدة إلى اليوم. بعد سفينجة، ظهر في بداية القرن ال 20 اليهودي الجزائري إدمون بافيل الذي كون أول جمعية أندلسية هي »المطربية«، ضمّ إليها الراحل محي الدين بشطارزي، أسماء من عائلة الفخارجية وغيرهم، بعدها ظهرت جمعية »الأندلسية« التي بها اليهود، وجمعية »المطربية« التي اقتصرت على الجزائريين المسلمين، حسبما جاء في مذكرات بشطارزي. هكذا، فإن عميد فن الشعبي العنقى، تتلمذ على تراث مؤسس الشعبي قويدر بن اسماعيل، ثم على يد المعلمة يامنة بنت المهدي، فالشيخ السعيدي، وهو الأمر الذي أكده العنقى بنفسه في عدة حوارات أجراها، وبالتالي فلم يكن هو مؤسس فن الشعبي، كما يدّعي اليهود، علما أنهم يتخذون من ذلك حجة ليقولوا أن »العباسي« سبق »العنقى«، أما بالنسبة للشيخ الناظور- رحمه الله- فإن العنقى كان عازفا في فرقته (على آلة الطار)، لكنه لم يمكث معه كثيرا بعدما وجد برنامجه الفني غير ثري ولا يلبي طموحه. على العموم، فإن الملاحظ أن اليهود يجتهدون من خلال تأسيس أوركسترا الشعبي، وهم يحيون بعض القصائد القديمة، خاصة قصائد بن سهلة وبن سليمان، كما يحيون أيضا قصائد التصوف والمديح (العزراوي) وغيرها. هم أخذوا عنا الأندلسي والشعبي، وهذا ليس عيبا، بشرط أن يحافظوا على أصالته وخصوصيته الجزائرية. - ماذا عن التجربة الجزائرية في مجال النهوض بفن الشعبي، وهل كانت ناجحة؟ * في سنة ,1946 كوّن الراحل بودالي سفير 5 أجواق موسيقية إذاعية في طبوع »الشعبي«، الأندلسي العصري«، »الصحراوي« و»القبائلي«. في »الشعبي« أُوكل هذا الجوق للراحل العنقى، والعصري للراحل مصطفى اسكندراني الذي كان معه محبوباتي، وضم إليه نخبة من الفنانين الشباب فيما بعد، منهم محمد العماري عبد الرحمن عزيز، مريم عابد وغيرهم، بينما كان مع العنقى؛ الحاج منور. وفي عام ,1962 تم تطوير »الشعبي« قصد النهوض في إطار الجوق والموسيقى العصرية مع مصطفى اسكندراني، وكان من الأجدر تطويره في إطاره الكلاسيكي، بإعتباره تراثا وطنيا. - معنى ذلك أن »الشعبي« لم يعرف نهضة ولا تجديدا فيما بعد؟ * بالتأكيد، فالشعبي لم يجدد منذ سنة 1946 على يد العنقى الذي أدخل عليه عدة آلات موسيقية، واستطاع نقله من »التقليدي« (قبل الثلاثينيات) إلى الكلاسيكي والعصري ذي الخصوصية التراثية، إن القصائد التراثية لاتُغنّى بأوركسترا عصرية، بالمقابل يجب تطوير الشعبي دون جعله فنا عصريا في حد ذاته، لأن ذلك سيكون تحريفا، فمثلا، ما قدمه الراحل محبوباتي هو أقرب إلى الموسيقى والأغنية الجزائرية العصرية منه إلى »الشعبي«، وبالتالي، فإنه من الطبيعي أن تُؤدى هذه الأغاني بأوركسترا عصرية، حتى ولو كانت تحت قيادة الشاب خالد، فقد يكون ذلك أجمل وأجمل، ربما. بالنسبة أيضا للراحل الباجي، فقد مزج بين الشعبي وطبوع أخرى، منها الفلامنكو وموسيقى جنوب أمريكا (الاتينية)، وبالتالي لا يمكننا اعتبار هذه القفزة نهضة بالشعبي، لأنها لاتحمل خصوصية الجزائرية الخالصة. لايمكننا أداء قصيد »العرفاوية« ذات القيمة التراثية والعلامة الجزائرية 100 بالمائة بموسيقى عصرية هجينة، إن الشعبي »الصح« هو ذلك الخالي من الشوائب. علينا اليوم تجنب السهل، وتجنب البوب، ينقصنا السعي إلى عصرنة كلاسيكية في إطار علمي، تحت إشراف علماء الموسيقى والفنانين الأكفاء، علينا مواجهة موجة تحريف تراثنا، كما هو الحال اليوم، من خلال حصص تبثها قنوات أجنبية، ولايتأتى ذلك إلا من خلال مختصين ومؤرخين لفن الشعبي، علما أننا لانملك ما نحتاجه من هؤلاء، وأنا شخصيا لا أعرف إلا رابح سعد الله. - كيف تقيّم اليوم الساحة الفنية للشعبي؟ * الشعبي، اليوم، في حالة سقوط حر، والجميع من أهل هذا الفن يعرفون ذلك، لكنهم لا يملكون الشجاعة للاعتراف بالواقع المر. إن الأصل في »الشعبي« هو الكلمة والتّملّك (السلطنة في الفن الشرقي، والسوينغ في الغربي خاصة في الجاز والبلوز)، وهي تقنية لا يملكها إلا المحترف والمتمكن، أما غير الفنان (المتطفل) ،فإنه يميل إلى الحفظ والتقليد بعيدا عن الإبداع، مع الوقت أصبحنا نشجع المقلدين لغياب المحترفين، وأصبح هؤلاء مدرسة رغم أنهم ليسوا كذلك، وكلها أمور ساهمت في ضياع الشعبي، بينما الأصل وفي الدول الرائدة، فإن المقلد يبقى مقلدا وليس فنانا، زد على ذلك النفاق الفني وابتعاد المختصين والنقاد عن منهاج التقويم، مما ساهم في الرداءة. - أين ترون الحل؟ * تطهير الوسط الفني وإعادة النظر في مايسمى بالمحترفين اليوم، لنفتح الأبواب أمام الكفاءات العلمية التي تملك الشجاعة والمسؤولية في اقتناء الأفضل وتقديمه، بدل المجاملة والمحاباة وكذا إعادة الإعتبار للجان الاستماع، خاصة على مستوى وسائل الإعلام. - وماذا على مستوى شخصكم، كيف هو حضوركم على الساحة الفنية؟ * أنا أولا من تلاميذ الراحل العنقى بالمعهد البلدي للموسيقى بالعاصمة في الستينيات، وأحاول حفظ بعض تراث شيخي، سواء في القصائد أو التسجيلات أو غيرها، اتجهت مع الراحل المازوني محمد نحو الأندلسي، ثم مع اسماعيل هنّي، بداية من 1987 أصبحت أقيم بمدينة عنابة، ومع ,1989 مارست الفن الشعبي، فيما كان شبه غائب، وأسست عام 2002 جمعية »العنقى«، 152 عازفا ومغنيا، مما ساهم في ازدهار الشعبي بعنابة، ثم جمعية »ايدوغ« ذات الطابع الشعبي والأندلسي، وسرعان ما لوحظ ارتفاع المستوى العلمي والأدائي للموسيقيين، وأصبح الجوق محترفا يعطي حفلات الشرق الجزائري ويستقبل كل فناني الوطن. عدت إلى الغناء عام 2009 لأمتع الجمهور وأعطي درسا لمن يجعل الشعبي مطية للربح على حساب المستوى، ولازلت أحضّر عبر بعض وسائل الإعلام، خاصة بالإذاعة، لأساهم ولو بقسط قليل في الحفاظ على هذا الموروث الحضاري الجزائري.