ثمة عبارة يرددها البعض من كبار السن كلما أطل الشهر الفضيل، مفادها أنّ نكهة رمضان تغيرت كثيرا مقارنة بما كانت عليه في عقود خلت، ويعد انقراض بعض العادات وسير بعضها الآخر في طريق الانقراض، أهم عنوان لهذا التغيير الذي فرضته الحياة المعاصرة.. وبين هذا وذاك، يبقى لرمضان عبق خاص لا يغيّبه تعاقب الأزمنة. عندما تدغدغ رائحة “الشوربة” الأنوف في الشوارع، لا يبقى شك في أنّ رمضان اليوم مثل الأمس، مازال يحتفظ بقائمة الطعام ذات النكهة التقليدية التي تمسكت بها العائلات حتى لا يغيب “البوراك” و«اللحم الحلو” عن موائد الإفطار.. لكن وإذا كان كثير من الناس يتفقون على أنّ الطقوس الروحانية لشهر رمضان مازالت سائدة وتنتقل من جيل إلى آخر، إلا أنّ ثمة حنين إلى رمضانيات أيام زمان يشدهم، حيث كانت العادات والتقاليد التي تعبر عن نمط حياة الأسلاف والأصالة المتجذرة عنوانا صارخا لهذا الشهر.. ولعل أنّ البعض من كبار السن يتذكرون في هذه الأيام بالتحديد مدفع رمضان الذي كان ينطلق دويه في المدن الكبرى، إيذانا بحلول موعد الإفطار الذي عوضه حاليا الآذان عبر شاشة التلفزيون. ولدى الحديث عن العادات التي أحالتها الحياة المعاصرة على النسيان وسط الجيل الجديد، حدثتنا سيدة متقدمة في السن بشارع باب الوادي قائلة: “إنّ نكهة الشهر لم تتغير بسبب تراجع بعض العادات بالدرجة الأولى، إنّما ذلك مرده إلى تغير سلوكيات الأفراد سلبا، الأمر الّذي سلب رمضان عدة أخلاقيات كانت تشكل جوهره، على غرار التضامن الذي يجهضه تجار اليوم الانتهازيين، ممن يجدون في رمضان فرصة لنهب الجيوب واستنزاف ميزانيات البسطاء والميسورين على حد سواء”. ومع انتشار القنوات الفضائية ودخولها المنازل عبر الهوائيات المقعرة إلى معظم المنازل، تحولت السهرات من جلسات حميمية تَجمع النسوة في أسطح الأبنية، لاسيما في الأحياء الشعبية، على غرار القصبة العتيقة، ومن أجواء مميزة تلتف بموجبها الفتيات حول صينيات الشاي والحلويات إلى جلسات تلفزيونية وسهرات إلكترونية في ظل الثورة التكنولوجية الحديثة.. والحقيقة، بحسب مواطنة أخرى عاشت أيام الشباب في القصبة العتيقة، ليست الشاشة التلفزيونية العامل الوحيد الذي غيّب لمة الجيران خلال السهرة، إنّما كان للعشرية الحمراء الّتي مرت بها الجزائر دورا كبيرا في تراجع عادة الجدات المميزة. ومن ناحية أخرى، تتفق الآراء في هذا الصدد على أنّ للتغييرات الاقتصادية التي دفعت بالمرأة للخروج إلى سوق العمل أثرا كبيرا أيضا في تغيير بعض أوجه الحياة خلال شهر رمضان.. فبعد أن كان الأقارب والأصدقاء يلتقون كل يوم عند موعد الإفطار لدى أحدهم، وبالتناوب لتناول أطباق ربة المنزل المستضيفة، تسير هذه العادة في الظل، نظرا لعدم توفر حيز زمني كبير لاستقبال الضيوف، في ظل تراكم مسؤوليات ربة البيت العاملة. ونفس الأمر ينطبق على عادة تبادل الأطباق بين الجيران في ظاهرة اجتماعية جميلة، اختفت عند الكثير نظرا لتغير أسلوب الحياة العصرية، ومحدودية الدخل وغلاء السلع في الأسواق.. وبهذا الخصوص مازالت الذاكرة الطفولية للآنسة “مروة” تحتفظ بمشاهد تبادل الأطباق بين الأحباب والجيران، وهو الأمر الّذي لم تعد تشهده اليوم في محيطها العائلي، وعن السبب، توضح أنّ جموع الجيران تفرقت في العديد من الأحياء الشعبية العاصمية العتيقة، بسبب مشكل ضيق المساكن.. ومع موجات الرحيل المتواصلة، رحلت تلك الالتفاتة الطيبة التي كانت توطد الأواصر بين الأحباب. وعلى خلاف من يفضل رمضانيات الأمس، وينظر إلى رمضانيات اليوم نظرة سلبية محضة، يقول السيد “عبد المجيد.ك” (مثقف في عقده السادس): “منطقي أن يحن كل جيل إلى زمانه، فلكل زمن خصوصياته.. لكن هذا لا يعني أنّ رمضان اليوم يفتقر إلى الجوانب الإيجابية كلية، بل على العكس، ظهرت عدة مظاهر تحمل بين طياتها المعاني السامية التي تغلب الجانب الروحي على الجانب المادي”. فلا مفر من الاعتراف بأنّ رمضان اليوم يشكو من اندثار بعض الأخلاقيات، وسيادة التزاحم الذي لم يكن سائدا من قبل، مع تراجع عادة تبادل الزيارات في ظل انتشار النزعة الفردانية في الوقت المعاصر، إضافة إلى تضييع الوقت من خلال الجلوس المطول في المقاهي والطرقات. لكنّنا في المقابل، نعيش اليوم شهر الصيام بمذاق خاص، بعد أن ظهرت عدة وسائل لم تكن متوفرة في الماضي، مثل الهاتف النقال الّذي يعزز صلة الرحم، كونه في متناول جميع الشرائح الاجتماعية. كما كثرت المساجد والجمعيات الخيرية التي تسارع إلى التضامن مع الفئات المحرومة والمعوزة وانتشار ظاهرة موائد الرحمن.. والأهم هو وجود مغريات كثيرة في هذا العصر، ينتصر الكثير من الناس عليها، وذلك هو الصيام بالمعنى الحقيقي، يضيف نفس المتحدث. ومهما تباينت الآراء، فإنّها في نهاية المطاف لا تختلف حول حقيقة أنّ نكهة رمضان الخاصة يشعر بها الجميع في كل زمان ومكان، حيث أنّ رمضان اليوم ليس كله حيزا لقيم السوق، الاستهلاك والفردانية. فرغم تغيّر أسلوب الحياة، يبقى لشهر رمضان سحره وطقوسه الروحانية.. كبار السن يقولون إنهم استمتعوا به أيام زمان رغم قلة المال في سيادة لمة الأحباب. وشباب اليوم الذين عاشوا في ظل تطور وسائل العيش يرون بأنّهم يستمتعون بالشهر المبارك، وأن الوسائل الحديثة تزيد الشهر فرحة وتختصر مسافات التواصل..