تعبر المظاهرات الشعبية التي كانت مدينة ورقلة مسرحا لها في ذلك اليوم من 27 فبراير ،1962 عن ذلك الرفض الشعبي العارم الذي قضى على أحلام الإحتلال الفرنسي بخصوص المساس بوحدة التراب الوطني. وقد أكد المواطنون في هذه المظاهرات الشعبية الحاشدة رفضهم المطلق لكافة المؤامرات والدسائس التي كانت فرنسا الإستعمارية تحيكها من أجل تحقيق حلمها في فصل الصحراء الجزائرية عن شمال الوطن، بغرض الاستيلاء على ثرواتها، كما عكست هذا الشعور الوطني العميق شهادات عدد من المجاهدين الذين عايشوا أحداث ثورة أول نوفمبر 1954 المظفرة. خطة سياسية محكمة من قبل قادة جيش التحرير الوطني لفضح مزاعم الإحتلال وعكست المظاهرات الشعبية التي حدثت في 27 فبراير 1962 بورقلة، مدى الحنكة السياسية التي كان يتمتع بها قادة جيش التحرير الوطني الذين اختاروا التوقيت والزمن الملائم لدحض وفضح المزاعم التي كان يروجها الإحتلال الفرنسي في أوساط الرأي العام الداخلي والدولي، بخصوص أطماعها وسياسة فصل الصحراء الجزائرية عن باقي التراب الوطني . وتذكر مصادر أن تاريخ هذه المظاهرات قد اختير بعناية فائقة من قبل قادة جيش التحرير الوطني الذين وجهوا يوم 26 فبراير 1962، تعليمات كتابية وشفهية صارمة موقعة من طرف الملازم محمد شنوفي إلى كافة أعيان وشيوخ المنطقة ومسؤولي 14 مجلسا نظاميا كان يشرف على النشاط الثوري بالمنطقة. وتحث هذه التعليمات مواطني المنطقة على الخروج في ذلك اليوم المشهود الذي كان قد تزامن مع قدوم وفد حكومي فرنسي رفقة ممثلين عن الأممالمتحدة إلى المنطقة، قصد الترويج للأطروحة الاستعمارية التي مفادها أن سكان الصحراء يقبلون بالبقاء تحت الراية الفرنسية بعد نيل الجزائر لاستقلالها، في مظاهرات شعبية عارمة يعبرون من خلالها عن رفضهم المطلق للمساومات ولمخططات الإستعمار الفرنسي وتمسكهم بالوحدة الوطنية كخيار غير قابل للمساومة. متظاهرون عزل واجهوا قوات الإستعمار بصدور عارية وقد استجاب مواطنو المنطقة بكل وعي لهذا النداء الثوري، حيث تجمعوا صباح يوم 27 فبراير من نفس السنة بالمكان المسمى بسوق الأحد بوسط مدينة ورقلة، إستعدادا للذهاب إلى مقر عمالة الواحات الذي سيتنقل إليه الوفد الفرنسي لإسماعه صوتهم الرافض للمناورات الإستعمارية، ورفضهم المطلق لمساعيها في فصل الصحراء الجزائرية عن باقي التراب الوطني. غير أن هذه المظاهرات لم تنطلق أحداثها إلا في الفترة المسائية، وذلك بعد تأخر وصول الوفد الحكومي الفرنسي و من معه من ممثلي الأممالمتحدة ووسائل الإعلام العالمية، كما تروي شهادات مجاهدي المنطقة ممن عايشوا هذا الحدث التاريخي. وبعد وصول المتظاهرين مباشرة إلى النقطة المحددة، تعالت زغاريد النسوة جماعيا، وردد المشاركون وبكل شجاعة، هتافات بحياة جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني، وبحياة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، كما رددوا الأناشيد الوطنية الحماسية ورفعوا العديد من الشعارات من بينها؛ “الصحراء جزائرية” و«لا لفصل الصحراء عن الوطن الأم” و”نعم للوحدة الوطنية” وبصدور عارية، واجه المتظاهرون العزل قوات الإحتلال الفرنسي التي حاولت كسر إرادة المتظاهرين، حيث سارعت إدارة الإحتلال إلى استدعاء وحدات من الجيش الفرنسي، معززة بالمدرعات والمصفحات للحيلولة دون وصول المتظاهرين إلى مقر العمالة مكان تواجد الوفد الرسمي الفرنسي. ولم تتردد القوات الإستعمارية في استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين العزل، مما تسبب في سقوط خمسة شهداء، كان في مقدمتهم الشهيد “الشطي الوكال”، وتسجيل حوالي 25 جريحا جراء إطلاق النار الكثيف من قبل قوات العدو، حيث استمرت هذه المظاهرات إلى غاية الساعة الثالثة من صبيحة اليوم الموالي، كما تذكر العديد من الشهادات. التنظيم المحكم واعتماد السرية والمباغتة سر نجاح هذه المظاهرات الشعبية وبخصوص تأثير ونجاح هذه المظاهرات الشعبية، أوضح المجاهد سيد روحو مبروك الذي كان أحد المشاركين فيها، أن سر نجاحها يعود إلى عملية التنظيم المحكم، إضافة إلى إحاطة توقيت حدوثها بالسرية التامة، الأمر الذي فاجأ الإدارة الاستعمارية وجعلها تمر بحالة من الفوضى والارتباك. كما لقنت هذه المظاهرات الشعبية درسا للمستعمر وأصابته بانتكاسة شديدة، خصوصا مع تواجد ممثلي الأممالمتحدة أنذاك بالمنطقة، الذين اكتشفوا بأنفسهم أن القول بقبول سكان الصحراء بالبقاء تحت السلطة الفرنسية ما هي إلا مزاعم باطلة كان يرددها المستعمر. ومن جانبه، يرى المجاهد مولاي محمد بن قويدر الذي كان بدوره حاضرا في هذا الحدث التاريخي، أن هذه المظاهرات كانت بمثابة رد عملي على الأكاذيب التي ظلت تروجها الإدارة الاستعمارية وأذنابها، وكانت حدثا بارزا قام خلاله المواطنون، ولأول مرة، برفع العلم الوطني بصفة علنية دون اهتمام لردة فعل المحتلين التي اتسمت باستعمال كافة أنواع القمع، العنف المفرط والوحشية. حدث أثر في مسار مفاوضات إيفيان ويجمع مجاهدو المنطقة ممن عايشوا هذا الحدث التاريخي، بأن مظاهرات 27 فبراير 1962 كانت بمثابة فصل الخطاب، حيث أفشلت مخطط تقسيم الجزائر، كما كانت الفاصلة بين عهدين؛ عهد الظلم والإستبداد وعهد الحرية والإستقلال، كما أنها مهدت الطريق أمام الطرف الجزائري لدخول مفاوضات إيفيان من موقع قوة، حيث أثر هذا الحدث في مسار هذه المفاوضات التي توجت بالاعتراف التام باستقلال الجزائر. ويرى في هذا الصدد المجاهد إبراهيم بوخطة الذي يرأس حاليا جمعية 27 فبراير 1962 بورقلة، بأن هذه المظاهرات الشعبية التي تميزت حينئذ بمشاركة واسعة لمواطني المنطقة، ومن مختلف الفئات العمرية قد استطاعت أن تحرق آخر الأوراق التي كان يراهن عليها المستعمر في مفاوضاته مع جبهة التحرير الوطني، والتي كانت ترمي إلى فصل الصحراء الجزائرية عن باقي التراب الوطني، بغرض الاحتفاظ وإلحاقها بتراب الجمهورية الفرنسية. وجوبهت هذه المؤامرة الإستعمارية التي كانت تستهدف ضرب وحدة الشعب الجزائري وتراب وطنه بالرفض الكلي والإستنكار الشديد من طرف سكان الصحراء الجزائرية وكافة أفراد الشعب الجزائري، كما أكد ذات المتحدث. وستظل مظاهرات 27 فبراير 1962 التي عاشتها منطقة ورقلة، واحدة من الصفحات الناصعة في سجل نضالات الشعب الجزائري، والتي أكد فيها تشبثه بوحدة التراب الوطني مهما كانت التضحيات. (وأج)