قدرت بيني وبين نفسي وأنا أتأمل مجموعة من صورها أنها أشبه ما تكون بالكاتبة الإنجليزية ”فرجينيا وولف” (1882-1941): قامة باسقة، رشيقة، مسترسلة كما يقول شاعرنا العربي: ”لا يشتكى قصر منها ولا طول!”. وأنا أعني بها الكاتبة الدانماركية، ”كارين بليكسن Karen Blixen” ،1885-1962 التي عاشت ما بين 1885 و1962 والتي أمضت جانبا كبيرا من حياتها في ضيعة إفريقية بالقرب من نيروبي في كينيا ووسط العديد من الفلاحين. لم يلتفت إليها أهل النقد كثيرا خلال حياتها، لكنهم عادوا وتداركوا نقصهم هذا حين راحوا يمجدون روايتها العظيمة ”خارج إفريقيا” التي نشرتها في أثناء حياتها بالإضافة إلى العديد من الكتابات القصصية التي عالجت فيها مواضيع أوربية وإفريقية. أما هوليوود فقد التفتت إليها بدورها فأنجزت فيلما انطلاقا من هذه الرواية بالذات وهو فيلم نال إعجاب المتفرجين في العالم أجمع. لم ينظر السينمائيون إلى أدب الكاتبة ”جرترود شتاين” التي كانت معاصرة لها، وللعديد من الكتاب الأمريكيين الموسومين بالجيل الضائع في أوربا. لا ولا التفتت السينما إلى الروائية ”مارتا جيلهورن” زوجة إرنست همنغواي الثالثة التي تزوجها خلال الحرب الأهلية الإسبانية، كما أن أهل السينما لم يلتفتوا صوب سيمون دوبوفوار صاحبة جان بول سارتر، بل إنهم فضلوا التوقف طويلا عند إنجازات كارين بليكسن الروائية. كانت هذه المرأة صامدة في ضيعتها الإفريقية، تعاني مرض الزهري الذي انتقل إليها بالعدوى عن طريق زوجها. فقد كان معروفا بمعاشرته للنساء الإفريقيات في ضيعتها، ولم يسلم من هذا المرض الفتاك، غير أنه لقي مصرعه على متن طائرة كان يقودها بنفسه فوق أحراش إفريقيا. في الأدب تواجهنا قضايا ومسائل قلما نلتفت إليها في حياتنا العامة. كارين بليكسن على سبيل المثال، تميزت بما لم تتميز به امرأة أخرى في العصر الحديث، وقد ظلت صامتة في وجه المرض، لا تشكو وضعيتها لأحد، بل تنكب على أوراقها وتكتب لا لكي تنسى فحسب، بل، لكي تؤرخ للمرأة في عالمنا الحديث. وكانت بذلك على النقيض من الروائية الأمريكية ”مارجريت ميتشل” التي وضعت روايتها الفذة ”ذهب مع الريح” لكي تنسى عاهتها التي أقعدتها بقية عمرها. والعجيب في أمر كارين بليكسن أنها كانت ترى نفسها وهي تموت شيئا فشيئا، وتذبل مثل شمعة في قلب ليل طويل. وجهها الذي كان ممتلئا في بداية حياتها حين كانت في أوروبا تعيش بين أهلها، راح يتناقص شيئا فشيئا إلى أن لم يبق منه إلا النزر اليسير إن جاز لنا أن نستعمل مثل هذه الصورة. عيناها بقيتا على حالهما، أما تقاطيع وجهها فصارت طولانية كأنها وجه خارج من إحدى لوحات الرسام الإسباني اليوناني الأصل ”الجريكو” الذي تميز برسم وجوه طولانية في جميع لوحاته. أبصرت بها في بعض الصور وهي تنشط بين فلاحيها في ضيعتها الإفريقية في الثلاثينات من القرن المنصرم، ثم وهي تذبل شيئا فشيئا ولا تكاد تقوى على الوقوف ولا تتوقف عن الكتابة الأدبية التي كانت رفيقها المخلص طيلة عمرها. هذه السيدة لا نكاد نعرف عنها شيئا في الأدب العربي الحديث وفي ما ترجم إلى اللغة العربية من الأدب الأوربي. بل إن بعض المترجمين التفتوا إلى من هم دونها أدبا وفنا، ونقلوا العديد من الكتابات التي لا تستأهل أن تجد لها مكانا في رفوف المكتبات العربية. عندما تفرجت على الفيلم الذي أنجزته هوليوود انطلاقا من رواية ”خارج إفريقيا”، قلت في أعماق نفسي: هذه امرأة مناضلة صنديدة، لا تريد أن تسكب دموعها أمام الناس وإنما تريد أن يفهمها الناس ويدركوا حجم معاناتها في زمن يزعم فيه البعض أن المرأة الغربية تخلصت من أوضار الحياة ومما يرتكبه الرجل في حقها بصورة عامة. فهل نفكر ذات يوم في نقل أدب كارين بليكسن إلى لغتنا العربية؟