كنت أخشى عليه من النهاية التي آل إليها، وبقدر ما كنت أتحاشاه وأغير طريقي في تنقلي من وإلى البيت أو بغرض التسوق وقضاء بعض الحاجيات اليومية، كان يعترض طريقي ويفاجئني كالشبح وينغص يومي، بانتقاده لكل حي وميت، لكل متحرك وجامد، كان يطوقني حتى لا أفلت منه، ولعلك لا تصدقني لو قلت لك أنه لا يتنفس أثناء حديثه، لا يتنفس أبدا خشية انفلاتي بين فسحة الشهيق والزفير، ولما انتصرت ذات يوم وتخلصت منه بأعجوبة نادرة، اعترضني في الأحلام حيث رأيته فيما يرى النائم ينصب لي كمينا كتلك التي تحدث في حرب العصابات ووقعت بين مخالبه فريسة هامدة مكبلا بألف قيد، مشلول الحركة، مستسلما لأوامره وانتقاداته واعتراضاته وانفعالاته.. لا الحكومة حكومة ولا السياسة سياسة ولا الدولة دولة.. كل شيء زائف زائغ منحرف، يحرك المخلوقات والأشياء كما شاء وحسب مزاجه وهواه، لا يرى من الألوان إلا الأسود، ولا من الناس إلا المريض، معتوه في تفكيره، مشلول في إرادته، فالطريق السيار في نظره لا شيء وقد رأى بعينه حفرة ذات يوم في الخط الرابط بين العاصمة وسطيف، وتوقف الميترو ذات مرة ثلاث دقائق كاملة عند محطة الحامة، ودهس الترامواي قطا كان عابرا، واستوقف سيارة أجرة لم تتوقف، وبرامج التلفزة، ومعروضات السوق، والحافلات والمقاهي والأرصفة، وتزفيت الطرق، والمطار والرحلات الجوية، والجامعات والمستشفيات، و... كل شيء لا شيء، كل شيء مقلوب، مزور منحط.. ورأيت إن أنا عارضته ضمني إلى الأشياء الفاسدة، فرحت أسايره وأفتعل الاهتمام.. وتمادى في رفض كل شيء، وراح ينتقد من جديد الحكومة والوزراء والولاة والأميار وكل المنتخبين والمعينين، والموظفين والتجار والأطباء، والمعلمين والمحامين والقضاة وكل من يعمل أو يتعاطف مع هؤلاء، وحين اكتمل العد، ولم يبق شيء لم يسب وينتقد، ولم يجد من يجلده، خنق نفسه فمات.. ولما أفقت قلت لنفسي لو يحصل لأمثاله ما حصل له لمات أكثر الناس.