رأيت نفسي فيما يرى النائم، أجلس صحبة ثلة من أندادي في المدرَّج العلوي لقاعة العرض بالمسرح الوطني، ننتظر بشغف بدء العرض المسرحي لمخرج ذاع صيته واشتهر بمسرحياته وسيناريوهاته لتعدُّد مواهبه؛ فهو السيناريست والمنتج والمخرج وأحيانا الممثل، كان يقف خلف الستار ولا يتراءى منه إلا ظله، تلمح إشاراته وتسمع تصفيقاته وهمساته، تتخيله ولكنك لا تراه، لا يتوارى لقبح خِلقته أو لقصر قامته، أو.. لكن قواعد اللعبة تستدعي ذلك، فهو يمسك بخيوط دُماه وأبطاله ويحرّكها من خلف الستار، فيوهمك بأنها تتحرك من تلقاء نفسها، وهي حرة في تعبيرها وكل سلوكها على الخشبة، خفتت الإنارة بعد أن غصت القاعة بالجمهور، ثم دبّ ظلام تدريجي وكأن الليل يزحف نحو الكون، أحسسنا وكأننا نرى ذلك لأول مرة أن إطفاء الإنارة متعمد، وأن الأمر مدبَّر مبيَّت يخفي وراءه سرا، سمعنا تحت وطأة الظلام حركة ودبيبا، ظننّا أن الأمر يتعلق باستعداد الجوقة للعرض وإمتاع الجمهور... لم يحاول القائمون على المسرح إنارة القاعة، تركونا نعيش تكهنات وتخمينات لا حصر لها، نتخبط في حلكة كحلكة الهموم.. اكتشفنا بفطرتنا أن هناك تمردا ومغادرة جماعية للمسرح، فخرجنا بدورنا على غير هدى، خبط عشواء؛ لا ندري أي اتجاه نخوض، وما إن رأينا النور خارج المسرح حتى علمنا أن الأمر يتعلق بفرار الممثلين وأبطال المسرحية، رأيناهم ينطلقون هاربين بأزيائهم التي نكروهم بها في اتجاه حديقة باب عزون، ومنها إلى ساحة الشهداء، ثم تفرقوا بين أزقّة القصبة وباب الوادي، وتركوا المخرج المنتج مصدوما تحت وطأة المفاجأة، التي لم يكن يوما يتوقعها فاغراً فاه، مشلول التفكير، لم تصدّق عيناه ما رأتا.. أما الممثلون وأبطال المسرحية الذين ظنوا أنهم نجوا من سيطرة المتحكم في إرادتهم وحركاتهم، وتحرروا من التنكر والتمثيل وتقليد الآخرين وخداع الجمهور، فقد وجدوا أنفسهم محاصَرين من طرف أشخاص مستنسخين من المخرج المنتج الذي فروا منه، فاقتادوهم عنوة إلى قاعة الأطلس لتقمّص أدوار أخرى لمخرج منتج آخر أقل رحمة من الأول.