تستحضر الجزائر، اليوم، الذكرى ال57 لإضراب الطلبة الجزائريين خلال الثورة التحريرية المظفرة، حيث كان منعرجا حاسما في تاريخ الكفاح الشعبي الذي التفت حوله مختلف شرائح المجتمع، فكان انخراط طلبة الجامعات والثانويات بمثابة المكسب الذي عزز قوة الثورة في وقت فضل فيه هؤلاء الطلبة التضحية بمستقبلهم الدراسي. وتبرز أهمية هذا الحدث التاريخي في كونه المحطة التاريخية الثالثة، في مسيرة الثورة بعد أول نوفمبر وأحداث 20 أوت 1955، حيث أعطى نفسا جديدا للثورة، وخيب آمال فرنسا التي كانت تراهن على كسب النخبة الجزائرية، لتلعب دور الداعي للاندماج معها. ولم يكن المستعمر يتوقع أن يتخلى الطلبة عن مقاعدهم الدراسية وعن أقلامهم ويحملوا المدافع والرشاشات ضد المستعمر الذي مارس كافة الأساليب الهمجية ضد شعب أعزل، مما شجع جبهة التحرير الوطني على مواصلة الكفاح المسلح وتصعيده من أجل الحرية والاستقلال، لاسيما وأن هذه التظاهرة التي أكدت ثقة الشعب الجزائري بكل شرائحه في قيادة ثورته جاءت لتفند أكاذيب المستعمر وادعاءاته بأن "الثورة لا وجود لها في الواقع وأن ما يحدث لا يعدو أن يكون أعمال شغب وإرهاب تقودها بعض المجموعات الطائشة وقطاع طرق". وعليه، يعتبر حدث 19 ماي 1956 بمثابة ملحمة تاريخية في كفاح الشعب الجزائري ضد الاستعمار، حيث عكست التظاهرات انصهار مختلف شرائح المجتمع الجزائري في الثورة التحريرية، وتجلى ذلك في العبارة الشهيرة التي حملها بيان الإضراب والقائلة بأن "الشهادات لن تصنع منا أحسن الجثث". وقد وجدت هذه العبارة صدى كبيرا في أوساط الطلبة والثانويين الذين غادروا مقاعد الدراسة بأعداد كبيرة، وأكدت تلك الملحمة للعالم أجمع شعبية وشمولية الثورة التحريرية من أجل انتزاع الاستقلال. ويجمع المؤرخون على أن الإضراب حقق الأهداف المرجوة منه، حيث انخرطت فئة الطلبة والثانويين في الثورة، وتدعمت هذه الأخيرة بطبقة مثقفة مكنت من إيصال صوت الجزائر إلى المحافل الدولية، حيث شُرع منذ ذلك التاريخ في تعيين ممثلين من الطلبة الجزائريين في المهجر في عدة منظمات دولية وإقليمية، وساهم نشاطهم في كسب تعاطف ومساندة نظرائهم في العالم للقضية الجزائرية، ليعزز بذلك الجهود التي أكسبت الثورة الجزائرية اعترافا دوليا. فقد كان الطلبة الذين أرسلتهم قيادات الثورة متواجدين في العديد من العواصم العربية والعالمية، من خلال التحاقهم بالجامعات أو بالمدارس والكليات العسكرية للتدريب والتكوين في مختلف الأسلحة من الطيران إلى الدبابة إلى سلاح الإشارة، حيث تخرجت دفعات ساهمت بشكل أو بآخر في دفع العمليات العسكرية ضد الاحتلال، ليشكلوا نواة للجيش الجزائري بعد الاستقلال. وإضافة إلى ذلك، كان الطالب الجزائري عنصرا فاعلا في الحياة الوطنية بمساهمته الكبيرة في الحركة الوطنية وإحداث حركية سياسية، أعطت للعمل الوطني انتشارا ومصداقية ومن ثم دفع الأحداث للتصاعد والمقاومة لتنعكس على الميدان الإعلامي، من خلال الصحف التي كانت تصدر في الأربعينيات والخمسينات من القرن الماضي. فقد عاش هؤلاء الطلبة وتعايشوا مع محيط كانت تسوده الروح الوطنية والعمل المقاوم للاحتلال والتخطيط للثورة على الاستعمار والتجنيد لتوعية الشعب عبر أنحاء الوطن ومواجهة الآلة الاستعمارية الدعائية. وهكذا تدعمت الثورة بالعديد من الطاقات الفكرية والعلمية من الطلاب للعمل معها في صفوف جيش التحرير الوطني كمجندين وصانعي قنابل وأطباء وممرضين. إضافة إلى ميادين أخرى كالدعاية والإعلام لتنوير الرأي العام العالمي والفرنسي بصفة خاصة. ونقل أخبار الثورة الجزائرية وتطوراتها بواسطة المناشير والمقالات الصحفية المختلفة قصد إسماع صوت الثورة الجزائرية على الصعيد الدولي والتحسيس بالقضية الجزائرية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية. ويكفي التذكير بأن الإطارات الأولى لسلك الدبلوماسية الجزائرية في عهد الاستقلال كانت من فئة الطلبة الذين لبوا نداء الثورة والتحقوا بصفوفها. وواصلت الفئة الطلابية بعد الاستقلال جهودها من أجل تشييد وبناء الجزائر ومحو آثار التخلف التي خلفها الاستعمار الفرنسي، حتى أصبحت الجزائر تضم عشرات الآلاف من الإطارات والعديد من الأدمغة التي تحتل مكانة مرموقة في الخارج، فيما التزمت الدولة الجزائرية بعد الاستقلال بتنفيذ البرنامج بصرامة، بما يضمن التعليم لكل أبناء الجزائر، حيث أضحى التعليم الذي كان لا يتعدى شموله 10 بالمائة من أطفال الجزائر، شبه شامل وأصبح عدد الطلبة الجامعيين الذي كان لا يتجاوز بضع مئات يفوق اليوم مليون طالب، وعلاوة على ذلك، تعمل الدولة اليوم جاهدة على توفير مناصب العمل لفائدة الطلبة المتخرجين من الجامعات، ولاسيما من خلال مختلف الآليات التي تمكنهم من إقامة المشاريع وإنشاء مؤسسات مصغرة. وإذا كان الطالب بالأمس قد قدم أغلى ما يملك من أجل الجزائر، فإنه اليوم مطالب بأن يكون جنديا في ساحة المعركة لأنه سلاح المستقبل والقوة التي تمد الوطن بكل إمكانيات الرقي، فهو الأستاذ والباحث وعالم الذرة والمهندس والطبيب الذي يفترض أن يكون في مستوى تطلعات جيل الأمس.