يحتضن مركز “مصطفى كاتب” إلى غاية 12 جويلية الجاري، معرضا تشكيليا من توقيع الفنانَين زويني احسن وبوعامر نور الدين، اللذين شدهما الحنين إلى العاصمة بعد سنوات طويلة من الغياب، ليحملا للبهجة خالص إبداعهما وعبقا مميَّزا من بونة المشرقة. جلس الفنان زويني في مدخل المعرض ينتظر زواره كي يقدّم لهم ما تيسّر من توضيحات وشروحات لمختلف لوحاته (عشرون لوحة). كما استقبل “المساء” مرحّبا، معبّرا عن سعادته بالعودة إلى العاصمة، التي تسمح له بالاحتكاك بالجمهور من خلال هذا المعرض وكذا إعطائه فرصة اكتشاف الجيل الجديد من الهواة، الذين ستصبح بيدهم مهمة النهوض بهذا الفن الراقي. يرى هذا الفنان أن الفترة الذهبية في حياة الفن التشكيلي الجزائري، كانت في الثمانينيات؛ حيث ظهر فن في القمة واستطاع فرض نفسه خارج الحدود، بعدها بفترة ساد نوع من الاحتكار وأصبحت الساحة شبه مغلقة وظهرت فئة لا علاقة لها بالفن التشكيلي الحقيقي، ثم عم الفراغ بعدما غادر بعض المبدعين الوطن في اتجاه ضفاف أخرى اختاروها، وبقي البعض غارقا في مشاكله أو في مرضه، كما هي الحال مع خطاط عنابة المعروف شلبي توفيق. من جهة أخرى، تحدّث هذا المبدع عن ضرورة إصدار قانون الفنان، الذي سيكون حصناً لأمثاله من فناني الوطن، علما أنه في 58 سنة من العمر وأب لعائلة وليس له عائد شهري أو ضمان اجتماعي. يقول الفنان زويني: “أنا فنان عصامي، ظهرت موهبة الرسم عندي منذ الطفولة إلى أن أقمت معرضي الخاص بولاية سعيدة سنة 1979، لتتوالى المعارض التي فاقت ال20 معرضا، منها ما أقيم لي بالجزائر وأخرى بالخارج كأمريكا وأوربا وأيضا بتونس، وأرى أنه رغم ما حققته إلا أنني لازلت مبتدئا”. يؤكد الفنان أن هذا الفن ينقصه جمهور النقاد؛ فهم يكادون يغيبون عن الأروقة، تماما عكس ما يحدث في الخارج، يقول: “عندما أعرض في الخارج مثلا في إسبانيا أو فرنسا أو الولاياتالمتحدة يأتيني النقاد ويقيّمون أعمالي ويتناقشون معي، ثم يكتبون عني في الصحافة أو في المواقع الإلكترونية، وهكذا تعم الفائدة؛ يستفيد الفنان والناقد والجمهور، ويمكن لأيٍّ كان أن يقرأ ما يكتب”. عن سبب الإقبال المحتشم للجمهور أشار المتحدث إلى أن الأروقة لا تستقبل الكثير، وهي ظاهرة سماها ب “الانتحار المادي”؛ أي أن بعض القيم الإنسانية تراجعت في مجتمعنا وحلت محلها المصالح المادية والأنانية، افتقدنا الحب والرحمة والتواصل والوطنية وغيرها من القيم، يقول زويني والدموع تنهمر من عينيه الخضراوين؛ “لا أحتمل رؤية مظاهر البؤس، تألمت عندما رأيت في الشارع أمّا مريضة مع ابنها المعوّق؛ إن فني هو جزء من حياة الجزائريين البسطاء، الذين أراهم في الأحياء الشعبية وفي المقاهي والساحات، فيها أجلس وأرتشف فنجان القهوة وأسجل”. المعرض هو عالم سحري يعكس الثقافة الواسعة لهذا الفنان المحترف، فالفنان، كما أشار في حديثه إلى “المساء”، قام بالعديد من الدراسات المعمّقة في التراث القديم، منه الفرعوني والأمازيغي والعربي والإفريقي والهندي عبر سنوات طويلة، وهذا من أجل إعطاء بعد إنساني لفنه المطعَّم بهذا التراث الذي تتقاسمه الإنسانية جمعاء. في جولة معه عبر المعرض توقفت “المساء” عند لوحة مزج فيها التراث الإفريقي بالأمازيغي، وهذا كرسالة للتشابه والتكامل بين تراث المتوسط، هذا التراث الذي شهد تلاقحا ملحوظا عبر القرون. لوحات الفنان لا تحمل عناوين، وهذا لفسح المجال للجمهور كي يوظّف مخيّلته. عن حالته وهو يرسم يقول زويني احسن: “أرسم وأنا جالس على الأرض وعيناي مغمضتان، أحاول أن أرحل بريشتي ومخيلتي إلى عوالم أخرى أكثر سحرا واتساعا”. يستعمل الفنان الألوان الطبيعية مائة بالمائة، يستخرجها من الطين وعصير النباتات وكذلك من التوابل ومن الحجر الذي يدقّه (يهرسه)، ويستعمل في كل ذلك عملية كيميائية دقيقة، وهذه الألوان الطبيعية تعيش لمئات السنين. يراسل هذا الفنان العديد من الأدباء للحصول على لوحاته كي تزيّن كتبهم (الغلاف)، وكذا الأساتذة من جامعات أوربا، الذين يطلبون شراء لوحاته، إلا أن مبدأ الربح عنده ليس أولوية عرض الفنان لوحة يراها لوحة كونية؛ لأنها، حسبه، ثورة في عالم الفن التشكيلي، بها تحصّل على جائزة “رجل سنة 2001” بالولاياتالمتحدة من طرف المعهد البيبليوغرافي الأمريكي، وبها أيضا وبأسلوبه الفني أصبح مرجعا علميا في القاموس الأمريكي للنقد الفني. هذه اللوحة “اللغز” يراها المتأمل حسب حالته النفسية، فإذا كان حزينا يراها حزينة، والعكس صحيح، وعندما يركز فيها المتأمل يجدها تخاطبه، كما أن عيني هذه السيدة تتبع المتأمل من كل الزوايا والاتجاهات، وهي تحمل رموزا ثقافية عديدة، مستمَدة من مخيّلة شعب وليست امرأة في حد ذاتها كشخص مشخَّص، عكس، مثلا، لوحةِ “موناليزا” المرأة التي عشقها ديفانشي. بالمقابل، عرض الفنان بوعامر نور الدين صديق زويني لوحاته ال20، كان غائبا عن المعرض، لكن زويني ناب عنه في تقديم أعماله التي تنحصر أغلبها في المدرسة التجريدية. أغلب اللوحات تطرح موضوع الأمومة والطفولة؛ ربما كون الفنان عاش يتيما محروما من أمه منذ سن ال12 من العمر. كل السيدات المتصدرات للوحاته تغيب ملامحهن وتقاسيم وجوههن، وهي في الغالب انعكاس لحالة نفسية دفينة، وهروب من تفاصيل امرأة نتعلق بها كثيرا، أو ربما أن الزمن طمس هذه الملامح من الذاكرة. وعلى العموم فإن الفنان يعرض أعماله كما يحسّها ولا يحاول قراءتها؛ لأن ذلك مهمة النقاد والجمهور. الأم في هذه اللوحات حاضرة بخصوصيتها الحضارية؛ من تقاليد وعادات ولباس وهوية، مما أضفى صدقا فوق صدق على أمومتها. للتذكير، فإن أغلب الوافدين على المعرض من النخبة؛ سواءً فنانين كانوا أو أساتذة جامعات.