كلما توغلنا في تراثنا الثقافي كلما اكتشفنا عظمة أجدادنا، التي تؤكد مدى قدرة العقل الجزائري على الإبداع. وإذا نظرنا إلى عالمنا العربي والإسلامي فنادرا ما لا نجد أثرا جزائريا في هذا القطر أو ذاك، فالجزائري كان يتشبع بالعلوم عن مشايخ بلاده، كل العلوم التي كان يتعاطاها طلاب العلم في عصره، وعندما يتبحر فيها وتتم إجازاته ممن جلس إلى حلقاتهم العلمية وأخذ عنهم العلوم المختلفة؛ سواء الدينية منها أم الحياتية والفكرية، إما أن ينشئ له مدرسة ليعلّم ويقوم بعملية التنوير أو يشد الرحال إلى الجامعات العلمية؛ سواء في المشرق أو الأندلس. إن الآثار العلمية التي تركها علماء الجزائر كثيرة وموزّعة على معظم العالم الإسلامي. وكثيرا ما توقفنا شخصية علمية جزائرية لم نكن نعرف أنها تنتسب إلى هذا الوطن إلا من خلال انتسابها المكاني لهذه المدينة أو تلك المنطقة. وكثيرا ما نجد شخصيات علمية جزائرية يتم السطو عليها من قبل الأقطار الشقيقة ونسبتها إلى هذا القطر أو ذاك، مثل ابن رشيق المسيلي، الذي يُنسب إلى القيروان، فتغلب نسبته إلى القيروان أكثر من موطنه الأصلي الجزائر، فيظن البعض أنه قيرواني؛ لأن الكثير من المصادر تذكره بابن رشيق القيرواني! الأماكن الجزائرية هي وحدها التي تحدد جزائرية هذا العالِم أو ذاك، مثل التلمساني، الونشريسي، الزواوي، البوني والقسنطيني، وهناك الكثير من العلماء تتم نسبتهم إلى المدن والمناطق الجزائرية حتى ولو وُلدوا في المشرق، مثل صاحب نهج البردة الإمام البصيري أو الشاعر الشاب الظريف التلمساني. هناك مبدع جزائري نقش إبداعه بحروف من ذهب في تاريخنا الأدبي العربي، ألا وهو أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني المشهور بركن الدين. هذا الأديب المبدع وُلد بوهران، وككل الجزائريين أخذ العلم عن علمائها ومن عاصرهم من القرن الخامس والسادس الهجري. الوهراني أو ركن الدين، زار معظم الدول الإسلامية وحضائر العالم الإسلامي، فقد زار تونس، مصر، بغداد ودمشق التي استقر بها في أيام نور الدين محمود بن زنكي المتوفى سنة 569 هجرية، وتوفي الوهراني سنة 575 هجرية أيام صلاح الدين الأيوبي. ترك محمد الوهراني آثارا أدبية رائعة، وهي مناماته المعروفة ب “منامات الوهراني”، وهي نصوص نثرية في صورة منامات ومقامات ورسائل وخطب، جمعها في كتابه “جليس كل ظريف”. هذا علم من أعلام الجزائر، اشتهر بالأسلوب التهكمي الساخر والإبداع المتميز، فهل آن الأوان لنفض الغبار عن أعلامنا وعلمائنا ونقدّمهم في شكل مسلسلات تلفزيونية من خلال سيرهم وحياتهم ورحلاتهم، وحسب العصر الذي عاش فيه كل عالم من هؤلاء الأعلام؟!