مؤلف كتاب “شروط النهضة” هو الكاتب والمفكر الجزائري مالك بن نبي، قضى زهاء الثلاثين عاما في بلاد الغرب، خاصة في فرنسا، أين درس الهندسة الكهربائية، كان واسع الاطلاع على الفلسفة الألمانية؛ وبخاصة كانط، نيتشه وشبنغلر، واطلع على العلوم الاجتماعية الفرنسية؛ خصوصا كوتن ودوركايم، وعلى فلسفة التاريخ البريطاني وبخاصة غيبون وتوينبي. وفي تقديمه للطبعة الجديدة لكتاب “شروط النهضة”، يقول د. رضوان السيد: صدر كتاب مالك بن نبي شروط النهضة بالفرنسية عام 1948، وعندما ترجمه إلى العربية عام 1960 اللبناني عمر مسقاوي والمصري عبد الصبور شاهين الطالب بالأزهر، أضاف إليه الأستاذ فصلين إسهاما في مزيد من الوضوح لأطروحة النهضة وعناصرها وعوائقها وسياقاتها، والأستاذ مالك يرى أن عالم ما بعد الموحدين “بعد القرن الثاني عشر” شهد انحطاطا متماديا، ومن ظواهره أيضا؛ الانصراف عن الاعتماد على قوة الحضارة إلى الاعتماد على القوة العسكرية من خلال الشعوب التركية؛ السلاجقة، ثم الأتراك الآخرون، وأبرزهم العثمانيون، وسترت الجيوش الفاتحة ذلك الانحطاط لبعض الوقت، ثم ما لبث الأمر أن انكشف عندما ضعف العثمانيون والمغول بالهند، وسيطر المستعمرون بالتدريج على الأنحاء كافة. وفي البداية، يوضح المؤلف دور السياسة والفكرة، فيقول: إن الكلمة لمن روح القدس، إنها تساهم إلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع في ضمير الفرد شديد، إن تدخل إلى سويداء قلبه، فتستقر معانيها فيه، لتحوله إلى إنسان ذي مبدأ ورسالة. وهكذا كانت كلمة جمال الدين، فشقت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها فأحيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذورا لفكرة بسيطة، فكرة النهوض، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين، وأصبحت قوة فعالة، بل غيرت ما بأنفس النساء من تقاليد، وبعثتهن إلى أسلوب في الحياة جديد. فمأساة الجزائر مثلا حتى سنة 1918، لم تكن إلا رواية صامتة، أو أثرا من الآثار التاريخية وضع في متحف، حتى ظهرت الفكرة الإصلاحية حوالي سنة 1925 تحركت المشكلة الجزائرية، وكانت حركة الإصلاح التي قام بها العلماء الجزائريون أقرب هذه الحركات إلى النفوس، وأدخلها في القلوب، إذ كان أساس منها حبهم الأكمل قوله تعالى: [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم]. ويذكر المؤلف أن العالم الإسلامي ظل خارج التاريخ دهرا طويلا كأن لم يكن له هدف، استسلم المريض للمرض، ونقد شعوره بالألم، حتى كأنه يؤلف جزءا من كيانه، وقبيل ميلاد هذا القرن خرج من سباته العميق ولديه الشعور بالألم، وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم الإسلامي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها “النهضة”، ونقطة الانطلاق هي أن الخمسين عاما الماضية تفسر لنا الحياة الراهنة التي يوجد فيها العالم الإسلامي اليوم، والتي يمكن أن تفسر بطريقتين متعارضتين؛ فهي من ناحية، النتيجة الموفقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من الزمان من أجل النهضة. وهي من ناحية أخرى، النتيجة الخائبة لتطور استمر خلال هذه الحقبة دون أن تشترك الآراء في تحديد أهدافه واتجاهاته. ويقول المؤلف: عندما يتحرك رجل الفطرة ويأخذ طريقه لكي يصبح رجل حضارة، فإنه ما زاد له سوى التراب، والوقت، وإرادته لتلك الحركة. وهنا لا يتاح لحضارة في بدئها رأسمال إلا ذلك الرجل البسيط الذي يتحرك والتراب الذي يميزه بقوته الزهيدة، حتى يصل إلى هدفه، والمجتمع الإنساني يمكنه أن يستغني وقتا ما عن مكتسبات الحضارة، لكنه لا يمكن أن يتنازل عن هذه العناصر من قصور شامخات وجامعات وطائرات تمثل قوته الأولية دون أن يتنازل في الوقت نفسه عن جوهر حياته الاجتماعية، وتحقق هذا حين كانت الدول المتقاتلة في الحرب الأخيرة لا تقوم خسارتها في الحرب بالذهب والفضة بل ساعات العمل، أي بقيم من الوقت، ومن الجهود البشرية ومن منتجات التراب، وهكذا كلما أصبح المكتسب غير كافٍ أو حادث دون الحصول عليه عقبات، وكلما دقت ساعات الخطر للرجوع إلى القيم الأساسية تستعيد الإنسانية مع عبقريتها قيمة الأشياء البسيطة التي كونت عظمتها.. تلك هي القيم الخالدة التي تجدها كلما وجب علينا العودة إلى بساطة الأشياء، أي في الواقع، كلما تحرك رجل الفطرة وتحركت معه حضارة في التاريخ. ويرى مالك بن نبي، أنه لا يمكن أن نتصور تاريخا بلا ثقافة، فالشعب الذي فقد ثقافته فقد حتما تاريخه. أما إذا حاولنا أن نحدد الثقافة بمعناها التربوي، فيجب أن نوضح هدفها، وما تتطلبه من وسائل التطبيق، فأما الهدف أن الثقافة ليست علما خاصا لطبقة من التاريخ دون أخرى، بل هو دستور تتطلبه الحياة العامة بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي. وفي إيضاح وظيفة الثقافة، فلنمثل لها بوظيفة الدم، فهو يتركب من الكرات الحمراء والبيضاء، وكلاهما يسبح في سائل واحد من “البلازما” ليغذي الجسد. فالثقافة هي ذلك الدم في جسم المجتمع، يغذي حضارته ويحمل أفكار “النخبة” كما يحمل أفكار “العامة”، كل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة والأذواق المتناسبة. ويضيف المؤلف: كل علاقة تنشأ بين المرأة والرجل، مهما تكن درجة البساطة في المجتمع الذي يعيشان فيه تقع بطبيعتها، وبحكم الغريزة، تحت قانون ذوق الجمال بما فيه من بساطة أو تعقد، حسب تطور ذلك المجتمع. والفنون جميعها: التصوير والموسيقى والشعر والنحت .. إلخ إنما تعبر عن تلك العلاقة خلال القرون وعبر التاريخ. ومن ناحية أخرى، فإنه منذ هابيل وقابيل ما اجتمع رجل برجل إلا وتنشأ بينها علاقة تخضع بحكم طبيعتها منذ اللحظة الأولى لقانون أخلاقي. من هنا يتضح لنا أن المجتمع ينتج، مهما تكن درجة تطوره، بذورا أخلاقية وجمالية نجدها في عرفه وعاداته وتقاليده، أي فيما نصطلح على تسميته ب “ثقافته” في أوسع معاني هذه الكلمة، ويشير المؤلف إلى حديث شريف “ما أكل طعام قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده”. فالعمل وحده هو الذي يحط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي، رغم أنه ليس عنصرا أساسيا كالإنسان والزمن والتراب، إلا أنه يتولد من هذه العناصر الثلاثة، لا من الخطب الانتخابية أو الوعظية. فعندما كان المسلمون الأوائل يشيدون مسجدهم الأول بالمدينة، كان هذا أول مساحة للعمل صنعت فيها الحضارة الإسلامية. فلو أننا نظرنا إلى هذه الساحة في بساطتها، وقلة شأنها في ذلك الوقت، لدعانا ذلك إلى الابتسام، أليس هناك من تلقى بناء الحضارة الإسلامية دروس العمل؟ ويرى المؤلف أن مشكلة المرأة ليست شيئا نبحثه منفردا عن مشكلة الرجل منها ويشكلان في حقيقتهما مشكلة واحدة، هي مشكلة الفرد في المجتمع وليس أننا نعقد مقارنة بين الرجل والمرأة، ثم نخرج منها بنتائج كمية تشير إلى قيمة المرأة في المجتمع، وأنها أكبر أو أصغر من قيمة الرجل، أو نساويها فليست هذه الأحكام إلا افتراء على حقيقة الأمر ومحض افتراء. ويضيف: نعلم أنه يضيق صدر بعض ذوي الأذواق الرقيقة بما نقول، فيحتجون علينا بأن مثل هذا الموقف يذيب المرأة في المجتمع، لكننا نقول لهم: إن إعطاء المرأة على حساب المجتمع معناه تدهور المجتمع، بالتالي تدهورها، أليست هي عضوا فيه، فالقضية ليست قضية فرد، إنما قضية مجتمع. أما عن مشكلة الزي فيقول: إن التوازن الأخلاقي في مجتمع ما، منوط بمجموعة من العوامل الأدبية والمادية، والملبس يناسب جميع طبقات الشعب في الماضي، على تناقضها، فكما أنه كان لباس الزاهد المتقرب إلى الله ولباس الراعي المسكين، فإنه كان لباس الأمراء المنهمكين في الملاذ والشهوات؛ لأن قاسما مشتركا من الحياة الراكدة الهادئة كان يجمعهم. وليس اللباس من العوامل المادية التي تقر التوازن الأخلاقي في المجتمع فحسب، بل إن له روحه الخاصة به، وإذا كانوا يقولون: “القميص لا يصنع القسيس” فإني أرى على العكس من ذلك، أن القميص يساهم في تكوين القسيس إلى حد ما؛ لأن اللباس يضفي على صاحبه روحه، ومن المشاهد أنه عندما يلبس الشخص لباسا رياضيا فإنه يشعر بأن روحا رياضية تسري في جسده، ولو كان ضعيف البنية، وعندما يلبس لبس العجوز، فإن أثر ذلك يظهر في مشيته ونفسه، ولو كان شابا قويا. يشار إلى أن الطبعة الجديدة من كتاب المفكر الجزائري مالك بن نبي “شروط النهضة” صدرت ضمن مطبوعات مجلة “الدوحة” وقدم لها المفكر اللبناني د. رضوان السيد، ويقع الكتاب في 214 صفحة من القطع المتوسط. الوكالات