الشمال الإفريقي، المغرب الأسلامي الذي اعتنق الإسلام وارتوى من مناهله الصافية، فأينع ثمارا طيبة وأنتج علماء صلحاء ما يزالون يزينون الحضارة الإسلامية العربية بإنتاجاتهم ومساهماتهم التي أثروا بها الحضارة، ومنها العلوم الدينية، حيث كان أستاذهم وشيخهم هو العالم الجليل والتابعي الكبير صاحب الموطأ، الإمام مالك رضي الله عنه، الذي كانت شعوب المغرب الإسلامي تستنير بفقهه وعلمه، وما تزال لحد الساعة تنتمي الى مدرسته الفقهية المتمثلة في مذهبه (المالكية) نسبة الى هذا الإمام الجليل. خرج مالك من المدينةالمنورة بعلمه إلى الدنيا ولم يخرج منها - المدينة - إلا حاجا لمكة وهو شيخ الأئمة وأصل المذاهب الفقهية، عليه تتلمذ كبار الأئمة والعلماء، وقد وضع الإمام مالك كتابه الموطأ بطلب من الخليفة العباسي، وقد روي عن الإمام مالك قوله: » دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين.. سألني عن أشياء منها حلال ومنها حرام، ثم قال لي: "أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس"، قلت لا والله يا أمير المؤمنين: قال : "بلى ولكنك تكتم"، ثم قال : والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به الى الآفاق فلأحملنهم عليه«، فقال مالك »لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب الرسول تفرقوا في الأمصار وإن تفعل تكن فتنة«. وروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال : » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ناس من المشرق والمغرب في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة«، ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه والجلالة والحفظ، فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب، وروت الأئمة عنه ممن كان أقدم منه سنا كالليث عالم أهل مصر والمغرب، والأوزاعي عالم أهل الشام ومفتيهم والثوري وشعبة ويحيى بن سعيد الأنصاري. ولد شيخ الإسلام وحجة الأمة إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك وهو من حمْير من اليمن وأمه عالية بنت شريك الأزدية، ولد سنة 93 هجرية عام موت أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فيه ابن عيينة: » مالك عالم أهل الحجاز وهو حجة زمانه«.. وقال فيه الإمام الشافعي : »إذا ذكر العلماء فمالك النجم«. وقد انتشر مذهبه في إفريقية والأندلس وصقلية وبلاد السودان والمغرب العربي، وقد أخذ أهل المغرب بمذهب مالك لما لهذا الإمام من علم ودقة في التحري والتروي في الرواية وقلة اعتماده على الرأي وأخذه بأعمال أهل المدينة من الصحابة والتابعين مثل المكاييل والموازين، انتقل المذهب المالكي الى الأندلس ومنها الى المغرب الإسلامي وقد ظهر اول ما ظهر على يد الفقيه زياد بن عبد الرحمن شبطون، وهذا ما أكده المقري أن شبطون فقيه الأندلس على مذهب مالك، وقد سمع عن مالك كتابه »الموطأ« ثم قال : روى يحيى الليثي عن زياد هذا الموطأ قبل أن يرحل الى مالك. ويحيى هو من روى الموطأ عن مالك، وهو يحيى بن يحيى بن كثير الليثي البربري المصمودي، وهو الذي أدخل المذهب المالكي الى الأندلس، وقال العلامة ابن خلدون: » وأما مالك فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا القليل«.. وقد انتشر المذهب المالكي في أقطار المغرب العربي الأدنى والأوسط والأقصى.. ويعد مختصر خليل المعروف عندنا ب »سيدي خليل« أكثر المؤلفات الفقهية صوابا وله شروحات كثيرة، وليس عندنا في الجزائر إلا المذهب المالكي والإباضي، وفي العهد التركي المذهب الحنفي. أما عن علم إمامنا مالك ما فقد روي عنه أنه قال: » ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني هل تراني موضعا لذلك، سألت ربيعة وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك، فقلت فلو نهوك، قال كنت أنتهي لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه«. ومن أقوال الإمام مالك »العلم ينقص ولا يزيد ولم يزل ينقص بعد الأنبياء والكتب، والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه إلا نزع الله هيبته من صدري، أعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما يسمع، لا يؤخذ العلم عن أربعة، سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به«. وكان الإمام مالك من أئمة الحديث في المدينة، يقول يحيى القطان ما في القوم أصح حديثا من مالك كان إماما في الحديث، وقال الشافعي قال محمد بن الحسن أقمت عند مالك ثلاث سنين وكسرا وسمعت من لفظه أكثر من سبعمائة حديث فكان محمد إذا حدث عن مالك امتلأ منزله، وإذا حدث عن غيره من الكوفيين لم يجئه إلا اليسير. تعرض الإمام مالك رحمه الله لمحنة بسبب الحسد وضرب رحمه الله بالسياط حتى أثر ذلك على يده. وقد عمر الإمام مالك تسعا وثمانين سنة، مات سنة تسع وسبعين ومائة. هذه بعض ملامح إمامنا مالك رحمه الله الذي انتشر فقهه بيننا وجل علمائنا هم من أتباع مذهبه، ولم يبرز لنا عالم في العلوم الشرعية والفقهية إلا وكان مالكي المذهب اشعري العقيدة، إلا أن سرعة الاتصال وتطور وسائله أثرت كثيرا في شبابنا الذين ذهبت بهم العديد من الطرق والمذاهب، خصوصا المذاهب الفضائية التي أصبحت تبث على المباشر، حيث كثر الشيوخ والعلماء الذين يتطاعنون ويتطاحنون على القنوات الفضائية، وهذا ما أثر كثيرا في مجتمعنا، وأصبح المذهب المالكي في خطر بسبب التنقل بين المذاهب حسب هوى المستفتي عبر هذه القنوات، وهذا ما جعل الدولة الجزائرية تفكر في إنشاء دار للفتوى تستند على الفقه المالكي، فهل يدرك شبابنا أننا في زمن كثرت فيه الآراء وتشعبت حتى أصبح لا يعرف أين هو، وصدق مثلنا الشعبي الذي يقول » أحرز دينك يوم تتخالف لديان«.