لازمتني مذكرات المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد، طيلة هذا الأسبوع، عثرت عليها صدفة في الصالون الدولي للكتاب، بعنوان ''في المكان الخطأ''. والكتاب فيه كثير من الاعترافات، التي قلما يبوح بها المثقفون العرب. لكن عند سعيد كل شيء يقال. حتى ولو كان شعورا بالقلق من مجرد حمل اسم يشعره بالحرج. فادوارد كما كتب سعيد ''اسم انجليزي طفيلي''. وكما قالت أمه فقد أوعز إلى الأمير ''واليس'' الذي برز عام ولادته سنة .1935 وسعيد هو اسم جمع من الأعمام وأولاد الأعمام. وكتب أنه حاول لعدة سنوات تجاهل ادوارد، وإبراز سعيد، وأحيانا قبل الأمر كما هو ''ادوارد سعيد''، لكن ذلك أصابه ''بنرفزة عصبية''. وتمكن أهمية هذه المذكرات في كونها تتناول قضيتين أثارتا، بشكل كبير، انتباه كثير من القراء، حسب ما قرأته قبل ملامسة الكتاب وقراءته. تتعلق القضية الأولى بالشخصية الهشّة المنكسرة لإدوارد سعيد بسبب علاقته بأبيه وأمّه، ولا شكّ أن هذا الكتاب من أهم الكتب التي تحدد علاقة الشخص بأبويه، وبشكل خاص بأمه. فالوالد أدمن على لعب الورق، ''وكان يرى في ذلك هربا من الواقع ومن هموم الحياة... وكما قال تعويضا لهموم عام 1942 وترفيها عن النفس''. ويضيف سعيد أنه كان يشعر بالكآبة، وهو يرى والده يلعب بصمت، وكان ذلك بمثابة عمل روتيني لا يتغير. وقد رسم الكاتب صورة دقيقة لهذه العلاقة المضطربة، مع الأب والأمّ. علاقته مع الأب قائمة على الجفوة والقسوة، وعلاقته مع أمه قائمة على الاستحواذ والاستئثار، بحيث لم يكن ثمّة حبّ سويّ. كانت أمه تريد أن تستحوذ عليه وهي تُجري تفريقا بينه وبين أخواته الأربع. أما بخصوص علاقته مع أمه، فنقرأ ما يلي ''ما كنت يوما اشك بحب والدتي لي كما أدركت دائما، لكنها كانت متحفظة. كانت ماهرة باستقطاب المرء واجتذابه لتعود وتفصح عن نواقصه بشكل مباشر وليس ملتويا''. ويضيف ''وسرعان ما كنت أفقد الثقة بالنفس ليجعلني ذلك أكثر فأكثر محتاجا لحبها ورضائها''. أما القضيّة الثانية، والتي لا تقل أهمية عن الأولى، لأنها مرتبطة بسعيد وعلاقاته بالثقافات، وبعنوان الكتاب نفسه ''في المكان الخطأ''، والتي تحيل إلى الإبحار بين الثقافات والأمكنة، والتعمق في الآداب الأجنبية قصد الكشف عن فضائل الأمم الأخرى وسلبياتها. ولا بد أن نعرف أن ادوارد سعيد، من خلال قراءة هذه المذكرات لا هو فلسطيني ولا عربي ولا هو مسيحي ولا أمريكي ولا هو ذو ثقافة إنجليزية ولا ثقافة عربية. فهو ينتمي لثقافة هجين وخليط. لا يملك هوية، هو موجود خارج المكان الذي يُحدّده الآخرون ويضفون عليه نمطيتهم. وكتب سعيد ''كل هذه التعقيدات والتشابكات ما استطعت ان استوعبها. ولماذا لم تكن أمي انجليزية عادية؟ هذه التناقضات صاحبتني طيلة حياتي، وكم تمنيت لو أني كنت عربيا، أوروبيا او أمريكيا، مسيحيا أرثوذكسيا، مسلما او مصريا تاما وهكذا''. ولم يخطئ الدكتور عبد الله إبراهيم لما كتب أن هذه هي عظمة إدوارد سعيد. فقد عاش في نوع من التوتر وإحساس بعدم الانتماء وكان أسلوبه قويّا وكان في شخصيته الثقافية نوع من التوهج والتوقد لأنه لم يكن نتاج وضع مستكين ورسمي، كان يشبه في هذا فيورباخ الألماني الذي عاش في اسطنبول وكتب عن فترة المنفى، وتودوروف. هناك قسّ فرنسي أنجليكاني عاش في القرن الثاني عشر، يقول بأن الإنسان الذي يحب مكانا معينا، وطنا معينا، هو إنسان غرّ، وجاهل طري العود. والإنسان الذي يعتقد أن العالم بأجمعه وطن له هو ناقص الهوية. إن قراءة مذكرات ادوارد سعيد أكثر من مهمة، فهي إبحار في الثقافات، في عوالم الأدب والفكر التي جعلته يكتب ''الاستشراق''، ويفهم العالم من خلال قراءات أدبية، ربما يعتقد البعض أنها عديمة القيمة. واستمر على ذلك النهج في الثقافة والامبريالية''، كتابه الرائع الذي حمله إلى عوالم جوزيف كونراد، لتحليل العقلية الاستعمارية، من داخل الثقافة الغربية نفسها.