يرى المؤلف أن إدوارد تأثر ، كثيراً ، بسيرة حياة البحار البولندي الذي جاب العالم على متن السفن البريطانية ، وصار في ما بعد من أهم روائيي الأدب الإنجليزي· ووجد أن هناك ثيمة مشتركة بينهما لعلها كانت سبب انتباه إدوارد له ، ومن ثم اهتمامه به وكتابة أطروحته لنيل درجة الدكتوراة ، في جامعة هارفارد ، عنه ، وكانت بعنوان اجوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتيةب· وأغلب الظن أن إحساس إدوارد ، الذي عاش معه وظل يؤرقه ، حول النفي والاقتلاع من أرض فلسطين هو ما جذبه لجوزيف كونراد ، ذلك الغريب الذي صارع لإثبات ذاته في الثقافة الإنجليزية· كما يروي فخري صالح في هذا الفصل تفاصيل الحملة الصهيونية في بعض الصحف الأمريكية والإنجليزية التي بدأت صيف عام 1999 لتشويه صورة إدوارد سعيد واتهامه بتزوير سيرته· يرى فخري صالح أن هدف الحملة كان التشويش على مشروع سيرة إدوارد الذاتية ، التي أعلن عزمه على تأليفها· ولكن الهدف الأبعد هو إسكات صوته الذي كان مدافعاً عن الحق الفلسطيني في الدوائر الأمريكية وفي وسائل الإعلام وفي المراكز الأكاديمية ، ومحاولة إضعاف تأثيره بصفته المتحدث الأبرز بلسان الفلسطينيين في الغرب· والهدف الأخطر هو التشكيك في قصة المعاناة الفلسطينية برمتها ، والتي خلّفتها النكبة من خلال إظهار أن إدوارد زوّر تاريخه· فعائلته كما يقولون ارتحلت عن فلسطين مبكراً (قبل عام )1948 وكأنما هذا هو حال الفلسطينيين الذين يدّعون آلام التشرد· ولكنه يرى أن كل هذه المحاولات ، التي استمرت ربع قرن ، لم تُجدً نفعاً· وهنا تكمن أهمية سيرإدوارد سعيد الذاتية ، التي تفند الكثير من المزاعم التي قيلت حوله· وإذا كان إدوارد لم يضع كتابه خارج المكان من أجل الرد على الحملة ، حيث كتبه خلال الفترة ما بين 1994 - 1998 ، بعد أن عرف عن إصابته بسرطان الدم (اللوكيميا) إلا أن الكتاب جاء في وقته· ويسجل إدوارد في هذا الكتاب وقائع حياته اليومية عبرة فترة زمنية طويلة أراد أن يبرز فيها تفاصيل المكان وتأثير الشخصيات في العائلة التي لعبت دوراً في تشكيل وعيه مبكراً على حدود الحلم والوطن الذي ضاع· أما كتاب إدوارد عن افرويد وغير الأوروبيينب فقد أراد أن يبين فيه أنّ فرويد وقع أسير المركزية الغربية التي رأت أن اليهود جزء من سياق الحضارة الغربية ، بدلاً من تراثهم المشرقي ، وهم بالتالي روجوا لهذه الرواية لأنها تخدم أغراضهم ، خاصة بعد بروز الاضطهاد الديني لليهود في شرق أوروبا· وأنه كان يعاني عندما وضع أسس التحليل النفسي حالة الخوف والعصابية لما كان يجري لليهود في ألمانيا والنمسا ، ما جعله يدرس ويحلل الوساوس والاضطرابات· ويطرح إدوارد سعيد مفهوم الأسلوب الأخير من خلال دراسته الأعمال الأخيرة لفرويد ، ومقارنتها بأعمال بيتهوفن الموسيقية الأخيرة· يرى إدوارد أن كثيراً من الكتاب والأدباء والفنانين والموهوبين قد تأثروا في أعمالهم الأخيرة بمفهوم الموت ، حيث ظهرت عليها مؤثرات وانحناءات تختلف عن أعمالهم السابقة ، لكأنما يستشعر المبدع النهاية ، وتؤثر في وعيه بوصفها هاجساً كبيراً تصبح معه أعماله متوجهة نحو التفكير في المرحلة الأخيرة· يرى المؤلف أن أهمية كتاب الإنسانية والنقد الديمقراطي تنبع من رغبة إدوارد سعيد في تحرير المذاهب الفكرية الغربية من المركزية الأوروبية التي تعطي السيادة للرجل الأبيض ، وفي إعطائها بعداً إنسانياً كونياً يعترف بالثقافات الإنسانية غير الغربية ، فوضع كتابه هذا ليشرح فيها امذهبه الإنسانيب وبالديمقراطيةب ، ويقترح صورة أخرى للمذهب الإنساني الغربي· بقي إدوارد سعيد مؤمناً بفكرة النزعة الإنسانية والدعوة إلى العدالة والمساواة والتحرر والتعلم ، برغم ما يثار ضدها ، وبرغم استغلال هذا المذهب من قبل الدوائر المركزية الأوروبية· وعن علاقة إدوارد سعيد بتيارات ما بعد الحداثة والنقد والتاريخ ، يتحدث المؤلف ، في عجالة أيضاً ، عن كتاب الباحث والناقد الهندي شيلي واليا إدوارد سعيد وكتابة التاريخ الذي يتضمن موقف إدوارد من تيارات ما بعد الحداثة كالبنيوية وما بعدها· فنرى انسجاماً ما بين نظرة إدوارد للمثقف العام ، وما بين موقفه النقدي الذي تجلى في دراسة سياقات النصوص التاريخية والسياسية ، ودوافعها النظرية والعملية التي أدت إلى إنتاج النصوص ، وأنه لم يكتف بقراءة النصوص الموضعية ، ودراسة النصية والتناص كما فعل النقاد أتباع جاك دريدا الذي رأى أنهم أصبحوا أسرى للنص وحده· لا بد لي من القول إن دور الناقد فخري صالح ، المعروف بجهوده النقدية ، لم يكن ظاهراً كما عهدناه فالكتاب هو تلخيص وتحليل وشرح أكثر منه تفاعل نقدي يبقى فيه للمؤلف هامش نقدي يعبر عن آرائه في ما يحلل أو يشرح· لقد وجدت أن الكتاب يقدم متقطفات موجزة لموقف إدوارد من الاستشراق ودور المثقف والثقافة ، ويقدم عرضاً مقتضباً لأغلب توجهات إدوارد وأفكاره الأخرى في القضايا النقدية والمجتمعية· وربما يخدم ذلك غرض القارئ الذي يود أن يتعرف على الموضوع لأول مرة ، ولكنه لا يلبي طموح القارئ المتعمق أو المتخصص الذي يسعى لقراءة عالم إدوارد سعيد عن قرب· وباستثناء نقد موقف إدوارد سعيد السياسي ، وهو ما عدّه فخري صالح نوعاً من الموقف التنظيري غير العملي الذي لا يقدم بديلاً ، فإننا لا نرى نقداً من قبل الكاتب لمجمل أعمال إدوارد الأخرى ، بل على العكس نرى إشادة مطلقة بها· ولم أجد في الكتاب أي نقد لأي موقف أو وجهة نظر ، أو حتى اختلاف معها ، بل إنه عندما أورد نماذج من كتابات الآخرين الناقدة لأعمال إدوارد سعيد سعى إلى تفنيدها: فقد أورد ، مثلاً ، ما كتبته الناقدة والباحثة فاليري كيندي ، التي رأت أن إدوارد استبعد الكتابات النسائية من كتاباته واهتماماته ، واستبعد النساء الفلسطينيات من تأملاته في حياة الفلسطينيين ، وحتى استبعد الكتابات النسائية الاستشراقية بسبب طبيعة الثقافة الذكورية التي نشأ فيها· كما أورد نقد فاليري النظرياتً والمناهجَ غير المتجانسة والمتعارضة ، التي وظفها إدوارد في كتاب الاستشراق ، من مثل: نظريات ميشيل فوكو ، وأنطونيو غرامشي ، والمنهج الفلسفي الإنساني ، ما أدى إلى وجود تعارضات أساسية في الكتاب· وهنا نرى أن فخري قد انبرى للدفاع عن إدوارد حينما اعتبر أنه لم يرد تقديم قراءة مقارنة لصور الشرق في أعين المستشرقين ، بل سعى إلى تفكيك الخطاب الغربي وفهم منطلقاته النمطية التي أدت إلى تشكله· ويرد فخري صالح على فاليري بأن سبب استبعاد إدوارد الكتاباتً النسائيةَ الاستشراقيةَ هو أنها كانت أكثر إنصافاً من كتابات المستشرقين الذكور· ولا أظن أنّ هذا سبب مقنع: فالمنطلقات واحدة ما دمنا نتحدث عن تفكيك دوافع الخطاب الغربي الاستشراقي ومنطلقاته وكيفية تشكله ، بغض النظر عن جنس كاتبه· كما يجد فخري صالح العذر لإدوارد حينما يفرد عشرين صفحة في كتابه الثقافة والإمبريالية لرواية جوزيف كونراد ، بينما يكتب أسطراً قليلة عن رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال ، ورواية بذرة قمح ، للروائي الكيني نغوجي واثيونغو ، حين يؤكد أن إدوارد حاول ، بهذا الاستشهاد ، تحليل فكرة التوسع الجغرافي للإمبريالية· وعموماً ، فإن رد فخري صالح مقتضب ، ولا يفصح عن أسباب جوهرية لينتقل إلى الحكم على أن كتابه لا يقف على أرض صلبة، يبدو لي أن عاطفة الدفاع عن الأب الروحي هي التي تسيطر على فكر فخري صالح في كل ما يكتب عن إدوارد· وفي الختام ، فإنه ينبغي القول إنني من المعجبين بعصامية إدوارد سعيد الفكرية ، ومكانته المرموقة ، وصلابته أمام الحملات الغربية التي وجهت له ، والتزامه بالدفاع عن الحق الفلسطيني ، وإبراز معاناة الفلسطينيين ، إلا أنني أظن أننا في حاجة لدراسة فكره وتسليط الضوء عليه بعيداً عن هالة الإعجاب فكل أعمال المفكرين والكتاب والفلاسفة تعرضت ، عبر التاريخ الإنساني ، لانتقادات أو لمحاولات لنقضها أو للرد عليها أو لتطويرها ، وهذا هو حال الفكر باستمرار·