فقدت الساحة الثقافية والفكرية الأسبوع الماضي واحدا من أكبر المفكرين الجزائرين الدكتور عبد الله شريط الذي يلقب بابن خلدون الجزائر، وشيعت جنازته بمقبرة العالية، وقد أحزنني كثيرا هذا الخبر بسبب أنه رحل فجأة دونما وداع وقبل أن تكتحل عيناه برؤية الجزء الثاني من كتابه الذي يحمل عنوان الثورة الجزائرية في جريدة الصباح التونسية، وقد اتصلت به أيام قليلة قبل وفاته لكتابة المقدمة فقال لي: في الوقت الحالي لا أستطيع فعل ذلك، فقلت له: مقدمة الجزء الأول من الكتاب جيدة ويمكن وضعها في الجزء الثاني، فرحب بالفكرة وقال: اعمل ما تراه مناسبا، وكنت أحس بسعادة تامة عندما أزوره في بيته نظرا للمناقشات الهامة التي كانت تدور بيننا في شتى المواضيع وآخر حكاية حكاها لي هي: عندما أسسنا اتحاد الكتاب الجزائريين، ونظرا للمشاكل المادية التي تعرضنا لها في هذا التأسيس طلبنا لقاء مع الراحل هواري بومدين، وقد لب طلبنا على الفور، وبعد الاستقبال قال لنا الرئيس: كل شيء يتحرك في الجزائر باستثناء اتحاد الكتاب، فأخبرته بالعراقيل فقال رحمه الله: أتعهد أمامك بأنني سأجعل الكتاب متوفرا كالخبز، وبعد خروجنا من مكتبه قال أحد الأصدقاء: الله يسترنا من الكتب التي ستتوفر مثل الخبز''. وآخر مرة التقيت به كان في بداية شهر جويلية 0102 وقد حدثني كثيرا عن المشاكل الكبيرة التي يعاني منها الانسان العربي كالفقر والأمية وصعوبة التأقلم مع العولمة، وكان آخر سؤال سألته يتعلق بالكتّاب الذين اهتموا بما كتب بعد ابن خلدون، فأجاب بصعوبة كبيرة وبصوت منخفض إنني معجب كثيرا بما ألف المؤرخ البريطاني الكبير ''ارنولد توينبي'' وقبل مغادرتي منزله توجه نحو مكتبته الكبيرة وأخذ كتابا لتوينبي يحمل عنوان مختصر دراسة التاريخ، وقال اقرأ هذا الكتاب جيدا لتتعرف على حضارات الشعوب وهو يحتوي على فصلين هامين متعلقين بالدراسة التاريخية والمقارنة بين الحضارات، وأنا واقف أمام باب الخروج نظر إلى الطاولة التي كنا جالسين بجانبها وقال لم تشرب شايا ولم تأكل حبة حلوة، فقلت له: نسيت هذه الأمور بعدما أخذتني إلى عالم آخر وأنت تتحدث عن المؤرخ توينبي، فعاد إلى الصالون وأخذ ثلاث قطع من الحلويات ووضعها في كيس وقال: أعرف أنك لا تتغد فخذ هذه القطع من الحلويات لعلها تخفف عنك ألم الجوع، وهذه آخر جملة سمعتها منه، لقد خسرت الأمة العربية والعالم الكثير بوفاة مفكر قومي عظيم استخدم كتابته من أجل أن تعيش الجزائر حرة ومستقلة، وحارب المستعمر التي أراد محو الجزائر من خريطة الأمة العربية بهذه الكتابة، ودافع عنها بصلابة حتى آخر يوم من حياته، فكان المفكر والفيلسوف الملتزم بحق، لم يحد عن درب النضال قيد فكره رغم المتاعب الصحية اللعينة، وقد ظهر في كتابته تأثره الكبير بابن خلدون، لذلك تجد في أغلب كتبه يتحدث عن تحديث الأفكار ومحاربة التعصب الفكري والجهل ودافعه واهتمامه بقضايا العدالة الاجتماعية، لذلك يعتبره الكثير ذاكرة ثقافية موصوفة بالجدية، وملعوم أن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة تفضل بتكريم الأستاذ الدكتور عبد الله شريط بمناسبة صدور المجلدات التي اعتبرها رئيس الجمهورية بمثابة ذاكرة الشعب الجماعية، ويعتبر هذا العمل انه جاء دليلا من باب وشهد شاهد من أهلها على عظمة الثورة الجزائرية وعظمة رجالها، كما ثمن الجهد المبذول من طرف الدكتور عبد الله شريط ونوه بعظمته، ويقول عنه وزير المجاهدين ''انه فعلا رجل متعدد الأبعاد، متنوع الثقافات، متبحر في العلوم، جمع بين المشارب المعرفية وبين حداثة الفكر''. لقد حباه المولى عز وجل بقدرة على التحصيل المعرفي وعلى الاستقراء والتحليل، رجل اختار النضال الفكري والمعرفي منذ شبابه منذ كان كاتبا صحفيا دافع عن قضية وطنه بقلمه، فمجاهدا فذا ومناضلا مخلصا، وباختصار هو واحد من ابرز فرسان القلم الجزائريين... ويقول عنه الدكتور ابراهيم لونيسي ''انه يعد من الباحثين والمفكرين الجزائريين القلائل جدا الذين تنبهوا إلى أهمية دراسة المواثيق السياسية المختلفة التي قامت الدولة الجزائرية بإصدارها نظرا لأهمية هذه الدراسات في الكشف عن السلبيات والعيوب التي يمكن أن ترد في هذه المواثيق، وبالتالي يتسنى الأمر بعد ذلك للمسؤولين تداركها من النصوص الأخرى''، ويقول عنه مدير مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية الأستاذ الدكتور عبد الكريم بوصفصاف ''الدكتور عبد الله شريط عميد الفلاسفة الجزائريين في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع وفي السياسة والأخلاق، وهو منظر للدولة الجزائرية ولمشروع المجتمع الجزائري الجديد منذ اربعة عقود من الزمن، فهو يرى أن مهمة الفلسفة في المجتمعات المتخلفة هي محاربة التبعية الفكرية التي تتم عن طريق الغزو الفكري، ويقترح حلا لذلك وهو ضرورة تظافر جهود المؤرخ والفيلسوف، مهمة المؤرخ أن يفهم الماضي فهما جديا وفي فهمه هذا يصبح التاريخ منظارا، ومهمة الفيلسوف أن يستشف المستقبل من هذا المنظار، فالدكتور عبد الله شريط، انطلق من هذه الآراء الفلسفية الواضحة في تخلف المجتمعات وتطورها، ويعتبر نفسه سليلا لابن باديس ومكملا لمشروعه الفكري الاجتماعي، وهو يعتبر الفلسفة في الجزائر ما تزال في مرحلة الطفولة يجب الاهتمام بتدريسها. كان رحمه الله ينتقد بشدة برامج التسلية التافهة التي تطغى على وسائل الإعلام، وفقرها في المادة الثقافية والتربوية والتعليمية، في الوقت الذي يعاني فيه عدد هائل من الشعب الأمية، كما انتقد جملة من العادات المتفشية في المجتمع الجزائري منها روح الاستهلاك، سواء للثقافة الموروثة أو للثقافة الوافدة، والجمود والكسل واللا مبالاة في تناول القضايا المصيرية وغيرها، لم يكتف عبد الله شريط بتشخصيص مواطن الداء بل حدد لها العلاج، وفي هذا المضمار يقول ''إننا الإطارات المثقفة أحببنا أم كرهنا نحن الإقطاعيون الحقيقيون، الذين يعيشون بامتيازات لا يريدون إشراك غيرهم فيها، لأن هذا الإشراك يتطلب جهدا وتعبا ولا تحولا عن الانسياق السهل مع ما وجدناه جاهزا من الأجداد الأولين. في العام الماضي نشرت جريدة المستقبل كتابه الذي يحمل عنوان حوار أيديولوجي ردا على الفيلسوف المغربي عبد الله العروي حول المسألة الصحراوية والقضية الفلسطينية في حلقات، كان يتابع باهتمام كبير هذه الحلقات، وقال لي: إنني أحس وكأنني أجريت هذا الحوار هذه السنة، في الأخير أقول: أكيد أن برحيله هذا قد ترك فراغا رهيبا وحزنا عميقا وسط العائلة ومحبيه، وأعتقد أنه مات وهو مرتاح لأنه ترك من يحافظ على كل ما كتب وما سينشر مستقبلا والمتمثل في ابنته الأستاذة الدكتورة والوزيرة السابقة بثينة شريط حفظها الله وأطال في عمرها لتكون خير خلف لخير سلف، ندعو كل الذين عرفوا الفقيد وأحبوه التضرع لله العلي القدير والدعاء له بالمغفرة والرحمة وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة مع الصالحين والشهداء. إنا لله وإنا إليه راجعون.