مع الحديث عن العولمة، وانتشار بعض مظاهرها في العالم، انتشرت معها ثقافة جديدة أثرت في شعوب الكثير من الدول، خصوصًا الأجيال الجديدة التي باتت تتأثر إيجابيا، وبشكل سريع مع هذه المؤثرات الثقافية، فأصبح الفارق بينها وبين الأجيال التي سبقتها واضحا للعيان، خصوصًا من حيث المفاهيم والسلوك والتطلعات والعلاقات التي تربط الأفراد ببعضهم بعضا، فالثقافة الاستهلاكية ليست ثقافة تحمل مظاهر ثقافات الشعوب التقليدية من قيم واعتقادات وفنون، ولا تمثل بعدًا إيديولوجيًا، أو فكرًا له رؤية للحياة، وقيم واعتقادات روحية يتوحد عليها الناس ،بل تعني بالدرجة الأولى بالجوانب الغريزية بالإنسان، وبالمظاهر والكماليات الشكلية التي تحدد قيمة الإنسان بمقدار ما يقتنيه من أشياء مادية أو مال، وحوّلت جميع مظاهر الثقافة، وأبرزها الفنون إلى سلعة تجارية. يأتي هذا في الوقت الذي ازدادت فيه حدة الاهتمام بموضوع الهوية منذ العقد الأخير من القرن الماضي بطريقة غير مسبوقة. فلا يختلف اثنان على أن هذا الموضوع أصبح يفرض نفسه فرضا على واقع العديد من المجتمعات. فمع الانفتاح الكبير بين الشعوب وتطور وسائل الاتصالات،ونقل المعلومة، والتوسع الاقتصادي الكبير للشركات الغربية، على وجه الخصوص، في كل أنحاء المعمورة، دشّن العالم مرحلة جديدة تزامن الاهتمام بها وإشباعها بحثًا مع تناول موضوع الهوية ألا وهي مرحلة العولمة، تلك الظاهرة التي لاتزال آخذة بالتبلور. والاستهلاك كما هو معروف جزء أساسي من حياة الأفراد في أي بقعة كانت في العالم, فإشباع الحاجات الضرورية للإنسان, يقف كأبرز أولويات متطلبات الحياة منذ التجمّعات البشرية الأولى وإلى اليوم. لكن الشيء المميز في المراحل التي مر بها الإنسان منذ القدم، وإلى عهد قصير أن تلازم إشباع هذه الحاجيات مع ثقافة كان لها قيمها ومظاهرها الروحية أو الفكرية، التي ميّزت شعوبًا عن أخرى ، وكان لهذه الأمور دور في تطوير وسائل الإنتاج والنظم السياسية والاجتماعية، التي شهدها العالم، وطال الجوانب الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية للأفراد. وقد ظلت أوربا إلى عهد قريب مصدرا مهما للثقافة العقلية، والإنسانية التنويرية، التي انتشرت في أنحاء كثيرة من المعمورة، وساهمت في تطوير الكثير من مجتمعات العالم الثالث، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة. أما اليوم فنحن أمام ثقافة استهلاكية جديدة مصدرها الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهي نِتاج لمجتمع جديد توافدت إليه جاليات من مختلف دول العالم تمثل ثقافات وهويات مختلفة منذ أن بدأ يتكون بشكله المؤسسي لفترة تقارب من ثلاثة قرون. هذا التكوين ألهجيني فرض العديد من المتطلبات الثقافية من أجل دمج أو صهر هذه الجاليات أو المجاميع العرقية المختلفة ضمن مجتمع جديد، وخلق التجانس بينها من أجل استقراره، ومن ثم تطويره. الأمر الذي أدى لظهور العملية التي اتسمت بها الفلسفة البراجماتية، التي تبلورت بشكل كبير في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد قادت إلى نسبية القيم وتبدّلها مع التطورات المختلفة. وهنا نجد فئتين، الأولى ترفض بشكل تام التعامل مع هذه الثقافة وحتى ثقافات أخرى قد يكون لها طابعها المميز، وتدعو إلى الانغلاق والتقوقع والانكماش الذاتي، والثانية التي تقلد النموذج الثقافي الغربي الحالي بحذافيره وتلغي هويتها وتراثها وقيمها بشكل تام، وكأنها ظاهرة مقتلعة الجذور في مجتمعاتها، وتعيش في حالة فصام معها. و لذا من الضروري التوصل إلى استيعاب التغييرات التي تحدث في مجتمعنا، والعمل على المحافظة على الأوجه الإنسانية والحضارية في هويتنا وثقافتنا.