وصف الأسير المحرر علي جدة (69 عامًا) الذي أمضى 17 عامًا في معتقلات الاحتلال علاقته بمدينة القدس كعلاقة عشق قيس لليلى العامرية، فهو مُولَهٌ بحبها.وقال في حوار لصالون القدس الثقافي في جلسته الصباحية الأثيرة على قلبه في مقهاه المفضل "البيك" على مدخل باب العامود: "أنا أعشق القدس لدرجة الهوى والغرام، ومثال بسيط على ذلك: كنت عام 1992 في سويسرا إثر دعوة من أصدقاء، وهناك عرضوا عليّ بعد أن قالوا إنهم ناقشوا قصتي، ووجدوا أن لدي مشاكل مع الإسرائيليين، وأنني ملاحق من سلطات الاحتلال.. وعليه، اقترحوا عليّ الإقامة في سويسرا والتكفّل بمصاريف حياتي وإقامتي من كل شيء.. فكان جوابي: ليس لدي استعداد حتى لو فُتحت كل أبواب أُوروبا أمامي لاستبدالها بقرنة أو زاوية أو حارة من حارات القدس" علي جدة بدون القدس ليس علي جدة! وأضاف: "أخبرتهم أن علي جدة بدون القدس القديمة لا يعود علي جدة، وللتأكيد على مدى الهوس الذي يجتاحني في عشق هذه المدينة الساحرة أنني عندما أمشي في أزقتها وحواريها، أعيش حالة "ديالوج" أو حوار داخلي مع حجارة البلدة القديمة، وأهمس لها وأشعر أنها تهمس لي بالمثل، فأسرح في عالم من السحر والدهشة والانبهار بعالمها الرحيب". ويضيف: "اليوم.. على الرغم من كل الإجراءات والخطوات التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي من محاولات لتغيير معالم البلدة القديمة بهدف تهويدها، أقول وأنا مطئمن البال إن كل هذه المحاولات لن يُكتب لها النجاح، فالمقدسيون بشكل خاص يعتبرون القدس بالنسبة لهم بمثابة الأُكسجين الذي يحتاجه الإنسان للتنفس، فمن دون القدس لا معنى لوجودهم! من هنا.. رغم الصورة السوداء التي تتراءى أمامنا، فإنني متفائل جدًا، ففي القدس معادن وأُناس هم بالفعل عملة نادرة لم يقوَ عليها الاحتلال منذ عام 1967 وحتى يومنا هذا، لن يحمي القدس إلا أبناؤها.وعن توقعاته بإمكانية أن يهب المحيط العربي والإسلامي لإنقاذ القدس من براثن المحتلين قال: "لا أُعّول كثيرًا على المحيط العربي والإسلامي.. ومن هنا تنبع القناعة لدى غالبية المقدسيين بأنه لا يحك جلدك مثل ظفرك.. والتاريخ لن يرحم كل من تقاعس وقصّر وتآمر، وفي الأخير لن يحمي القدس سوى أبنائها". وبخصوص السلم الأهلي وصيانة النسيج المجتمعي في المدينة، رأى جدة أن "ما نشهده من إشكالات هنا وهناك ومن حين إلى آخر أمر طبيعي، فهذه الإشكالات تنبع بالدرجة الأُولى من الإحباط الذي يُصاب به الناس بفعل الضغوظات اليومية والعيش تحت الاحتلال، وأعتقد أن أفضل مَن أعطى تفسيرًا لهذه الظواهر المجتمعية هو الثائر المارتينيكي رانتس فانون في كتابه "أقنعة بيضاء وبشرة سوداء"، حيث إنني مقتنع تمامًا بأنه لا بد من التصميم على النضال لدحر الاحتلال الذي هو أساس كل الموبقات والشرور والأمراض الاجتماعية والنفسية. دليل سياحي وقال جدة الذي عمل مرشدًا سياحيًا إلى أن أُصيب بإعاقةٍ بدنيةٍ في النخاع الشوكي منعته من الحركة وبات من دون عمل: "رسالتي أولاً وأخيرًا للفلسطينيين وللعرب ولكل أحرار وشرفاء هذا العالم أن القدس أمانة في أعناقكم.. صونوها كما تُصان حدقات العيون".والأسير المحرر جدة، الصلب كشجرة سنديان مقدسية والقابض على حلمه بوطنٍ حرٍّ سعيدٍ كالقابض على الجمر، يكتفي اليوم بإلقاء محاضرات في بعض الأحيان لوفود أجنبية تقصده، علماً أنه يجيد عدة لغات. ولا نغالي إذا قلنا أن هؤلاء الأجانب بعد أن يستمعوا إليه "يصبحون كاثوليكيين أكثر من البابا" -على حد تعبيره-، وبمعنى آخر يصبحون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين.