يستهلك الموظف البسيط الذي يتنقل من مدينة عين طاية مثلا للالتحاق بمقر عمله في البريد المركزي وسط العاصمة، قرابة 95 دقيقة ذهابا وأكثر من 120 دقيقة في ساعات الذروة إيابا (16.30 و18.00)، كما لا يستهلك أكثر من 40 دقيقة للظفر بمكان ليركن فيه سيارته سواء في الحظائر والمواقف النظامية أوالفوضوية منها.. أزمة الاكتظاظ هذه، انتقلت عدواها إلى الموانئ والمؤسسات المرفئية التي تؤثر بشكل أو بآخر على المنظومة الاقتصادية لما نعلم أن الاقتصاد العالمي اليوم أصبح مرهونا ب "الوقت" أكثر، والمثل الانجليزي يقول "الوقت هو المالTHE TIME IS MONEY". كل هذه المعطيات وجزئيات أخرى، تتعلق بسلوكيات الموظف والعامل الجزائري، تؤشر إلى أن الاقتصاد الوطني يخسر المليارات من الدينارات سنويا، والسبب "الوقت المهدور في الطرقات". ما يزال الاقتصاد الوطني من ضمن الاقتصاديات التي لا تولي للوقت أهمية في وقت تحتكم الاقتصاديات المتطورة إلى التوقيت الاتوماتيكي الدقيق "لأن كل ثانية من عمر اقتصادياتها لها ما يقابلها من الدولار والأورو والجنيه الاستيرليني والين الياباني"، كما أن كل التأخر يكبد الخزينة الملايين تتراكم يوميا دون الشعور بها، لكن الموازنات والمقاربات التي تعدها سنويا مراكز الإحصاء والهيئات غير الحكومية التي تعنى بشؤون الاستطلاعات واستبارات الرأي في المجال الاقتصادي تبين أن الفجوة المالية التي يسببها التعطل مهما كان مصدره كبيرة وتتحول من ملايين إلى ملايير. إلى جانب التأخر والتعطل في الطرقات وقلة المواقف والحظائر، نجد عوامل أخرى تنخر بدورها الاقتصاد الوطني، نذكر بالدرجة الأولى الإضرابات وأيضا تداعيات دخول نهاية الأسبوع الجديد التطبيق الميداني منذ 14 أوت 2009 الذي أخل بمواقيت العمل وخلق فوضى عارمة. قلة مواقف وحظائر السيارات.. معضلة حقيقية قد يتساءل البعض عن علاقة قلة المواقف وحظائر السيارات بالاقتصاد الوطني، والحقيقة أن العلاقة بينهما جدلية، لأن الموظف أو العامل الذي يستهلك ساعتين للوصول إلى مقر عمله مسألة تستدعي التوقف عندها. ويرى المتتبعون لملفات حركة النقل والمرور في البلاد، أن كل الأنفاق الحضرية والجسور والمحولات الاجتنابية التي أنجزت في النسيج الحضري بالمدن الكبرى تبقى من غير فائدة أو جدوى اقتصادية في حال مراوحة مشاريع بناء الحظائر والمواقف مكانها منذ أكثر من 5 سنوات، والواقع أن السلطات العمومية في العاصمة لم تبادر إلى إنشاء حظائر للسيارات من سنة 2004 وأن آخر موقف تمت تهيئته كان في ساحة 2 ماي وسط العاصمة بعد تحويل محطة النقل البري ما بين الولايات إلى محطة الخروبة شرق العاصمة. ويرجع هؤلاء المتتبعون استقرار حركة استحداث المواقف في العاصمة إلى ندرة العقارات، لكن خبراء أجانب كانوا قد أشاروا إلى حلول بديلة، لكن للأسف السلطات لم تأخذ بها محمل الجد وهي بناء مواقف وحظائر تحت الأرض، خصوصا وأن التركيبة الجيولوجية الصخرية للعاصمة، خصوصا منطقة الأعالي تسمح بحفر أكثر من 150 إلى 200 متر تحت الأرض، لكن يبدو أن هذا المسعى مستبعد في أجندة وزارة الأشغال العمومية والنقل والجماعات المحلية. شلل في الموانئ.. عبء إضافي رغم بديل "الموانئ الجافة" الحقيقة أن حركة النقل في العاصمة معقدة ومتداخلة بشكل تتأثر من تداعياتها المنظومة الاقتصادية ككل، والحقيقة أن بلوغ حافلة من الوزن الثقيل (أكثر من 2.5 طن) مرفئ الشحن داخل الميناء تتطلب 7 ساعات كاملة (نقطة الانطلاق المرفأ الجاف بالحميز) ويتعطل الوزن الثقيل، على غرار الوزن الخفيف على المحور السريع (الطريق الوطني رقم 5) من جراء حالة التراكم التي يشهدها وسط العاصمة التي تمتد إلى غاية النقطة الكيلوميترية 15 بباب الزوار. كما أن محور العودة للوزن الثقيل إلى نقطة الانطلاق بالحميز يتطلب 5 إلى 6 ساعات أخرى، كل هذا الوقت المهدور ينعكس على آجال معالجة السلع (الإجراءات الجمركية)، وبعدها عمليات التسليم. والمسألة تتعقد أكثر لما نكون أما شاحنات تنقل مواد أولية ضرورية لمصانع التحويل. ويقول العديد من المتعاملين الاقتصاديين أن آلات الإنتاج تتوقف يوميا ساعتين إلى 3 ساعات في انتظار الطلبية التي تسجل دوما التأخر إما في الميناء أو عبر الطريق. العاصمة تختنق والحل ليس غدا حسب الإحصائيات المتوافرة، فإن أكثر من 1.8 مليون مركبة تدخل العاصمة يوميا أي على امتداد 24 ساعة وذلك عبر المداخل الشرقية ( الطريق الوطني رقم 5 ) والغربية والجنوبية (الطريق السريع الجزائرالبليدة) ولا تستوعب المواقف النظامية الموجودة سوى 400 ألف سيارة وباقي المواقف هي عبارة عن مواقف غير شرعية ويبدوان السلطات العمومية وعلى رأسها وزارة النقل والجماعات المحلية لم تأخذ هذا الملف الخطير محمل الجد. وكان سوق السيارات قد عرف "الذروة التجارية" بين سنتي 2006 و2008 حين كان الموزعين الحصريين يستوردون وتسوقون أكثر من 340 ألف سيارة جديدة سنويا، في حين بقي مستوى استحداث المواقف والحظائر مستقرا. لكن وبعد دخول قانون منع القروض الاستهلاكية حيز التنفيذ في أوت 2009 والتي تسيطر عليه قروض تمويل اقتناء السيارات بنسبة 80 بالمائة سجل تراجع محسوس في عمليات الاستيراد والمبيعات أيضا التي تهاوت إلى حدود 40 بالمائة، لكن هذا الوضع لم يغير الواقع في شيء، لأن تراكم الحظيرة الوطنية للسيارات على امتداد السنوات الست الماضية وهي فترة ازدهار سوق السيارات الجديدة في البلاد جعلت من الوضع معقدا إلى درجة أن تجد مكانا لركن سيارتك في العاصمة بين الساعة التاسعة صباحا ومنتصف النهار في العاصمة ضربا من المستحيل. المواقف الفوضوية.. دولة داخل دولة أمام هذا الوضع المزري الذي آلت إليه حركة النقل والمرور في العاصمة، وجدت مجموعات من الشباب فرصتها، حيث احتلت الأرصفة والشوارع والطرق العمومية بشكل فوضوي وراحت تجبر أصحاب المركبات والسيارات على دفع 30 دج أو50 دج في بعض المواقف مقابل ركن العربات والسيارات.. الظاهرة استشرت أكثر أمام أعين السلطات، لأن بعض هذه المواقف غير الشرعية لا تبعد سوى بأمتار قليلة عن مقرات الأمن الحضري، لكن الجماعات المحلية لا تأبه رغم الشكاوى العديدة التي يرفعها السكان المطالبون أيضا بدورهم بدفع "الإتاوة" بالرغم من أنهم يسكنون في العمارات التي تحاذي "الطريق الموقف". وقد بسطت هذه الجماعات من الشباب المزودة بمختلف الأنواع من الأسلحة البيضاء مثل الهراوات والسكاكين سيطرتها على كل شوارع العاصمة دون استثناء، ولا يجد المواطن من حل سوى الرضوخ والإذعان، وبالتالي دفع سعر ركن سيارته. المواقف الأرضية والعلوية هي الحل ويشدد العديد من الخبراء المختصين في مجال الأشغال العمومية والبنى التحتية والمنشآت الفنية، أن بديل بناء مواقف تحت الأرض أو توسيع الموجودة بشكل هرمي على شكل طبقات، هي الحل في الوقت الحالي لاحتواء أزمة النقل والشلل المروري في العاصمة على الأقل بنسبة 50 بالمائة، لكن هذا الحل الذي طرح في مناسبات عديدة من طرف خبراء أجانب يبدو أنه لم يحد بعد الأذان الصاغية، ربما لتكلفتها الكبيرة مقارنة بتكاليف استحداث المواقف المفتوحة، لكن ندرة العقارات والفضاءات الشاغرة ترهن هذه المشاريع .ولا حل سوى بناء ما اقترحته العديد من مكاتب الخبرة والاستشارة الجزائرية والأجنبية، على حد سواء.