نظمت وزارة التربية خلال الأيام الماضية مسابقة لتوظيف الأساتذة ، أو قل مرشحين لاستلام منصب أساتذة إن صح التعبير، تقدم لهذه المسابقة أضعاف مضاعفة من حاملي الشهادات، المتخرجين حديثا من مختلف الجامعات، أو من غيرهم، للظفر بالمناصب القارة التي تمنحها ميزانية الوزارة، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو :أين التكوين في كل ذلك.. تكوين الإطار الذي يطمح إليه المجتمع.. التكوين الذي يجعل منه عاملا منتجا، بمعنى آخر، التكوين الذي يجعل منه صاحب مهنة حقيقي، أي معلما، وليس حارسا ؟ التكوين .. تعددت صيغه وضاعت أهدافه إن الحديث عن المعلم بصفة عامة، بغض النظر عن كونه معلما في التعليم الابتدائي أو المتوسط أو الثانوي، وموضوع تكوينه، حديث ذو أهمية بالغة، أهمية تنبع من أهمية القضية ككل، قضية المدرسة، وما يتصل بها، من وسائل وتأطير وهياكل وبرامج..وأهداف . وحديثي في هذه العجالة سيقتصر على موضوع التكوين، تكوين المعلم الذي تعددت صيغه وضاعت أهدافه. فهل التوظيف المباشر الذي تلجأ إليه الوزارة، وسياسة ما يمكن أن نطلق عليه "البريكولاج"، التي تنتهجها في ما يسمى بإدماج الملتحقين الجدد بالوظيفة، هو الحل المناسب .. أم أن بلوغ الأهداف السياسية العاجلة أهم من بلوغ الهدف الأسمى للمدرسة والمجتمع ككل؟ إن واقع المدرسة الجزائرية منذ نشأتها، أي بعد الاستقلال، قد عرف مسارا بيانيا ذا وجهين، مسار متصاعد بالنسبة لعدد التلاميذ والمؤطرين والهياكل، بحيث أقامت الدولة مؤسسات سمحت لأبناء جزائر الاستقلال أن يجدوا مقاعد للدراسة، في كل ربوع الوطن، جسدت بذلك ديمقراطية التعليم، بإعطاء الفرصة لكل واحد من أبناء الشعب، لكي يتعلم ويرتقي درجات العلم، أما بالنسبة للبرامج ومحتوى البرامج، والمستوى العام سواء تعلق الأمر بالتلاميذ أوالتأطير، فإن الخط البياني للمسار يتجه نحو الأسفل ومازال، وهذه حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها، إلا إذا كان يريد تغطية الشمس بالغربال، كما تفعل الوزارة البيروقراطية، التي همها الوحيد هو إنجاح سياسة إصلاحاتها غير الواضحة المعالم، والتي تقوم على أسلوب الحشو، حتى في التسيير، بحيث نلاحظ أن القرارات والإجراءات التي تتبعها تتوالى بكثافة على مختلف مستويات التعليم، خلقت عسر هضم حاد، ما إن يبدأ تنفيذ القرارات والإجراءات السابقة، حتى تنزل قرارات وإجراءات أخرى تستعجل الهضم.. ، كما نرى ذلك في قرار تطبيق عقد النجاعة في المؤسسات التربوية.. فهل القرارات السابقة لقرار عقد النجاعة، هضمت، حتى تفرغ مزيدا من الدسوم على هذا المعدة التي لم تعد تحتمل أي طعام؟ ثم، أية مؤسسة وأية وسائل وأي إطار يمكن له الالتزام بعقد مبني على "إملاءات" الأهداف السياسية العاجلة .. ومسألة التحكم في التأطير، العصب الحساس في العملية التربوية، وتكوينه تكوينا ملائما، مازالت تراوح مكانها، بل في تقهقر؟ أليس من العبث والحال هذه، أن نتحدث عن عقد النجاعة، ومسألة العنصر(المعلم) الذي يحقق الأهداف المرسومة، غير مهيأ لتحمل عبء هذه المهمة؟ الشهادة وحدها لا تصنع المعلم ومن منطلق أن الشهادة وحدها لا تصنع المعلم بمواصفات المهنة، فإن ما تفعله وزارة التربية في الأعوام الأخيرة، أو منذ غلق معاهد التكوين المتخصصة، لا يخرج عن كونه سدا للفراغ، بل بريكولاج، ويتم ذلك على حساب التلاميذ من جهة، وعلى حساب الدولة كمؤسسة تحتاج إلى رجال أكفاء يرفعون قواعدها، من جهة أخرى. فلماذا تلجأ الوزارة أو الحكومة، إلى سياسة البريكولاج ، بتوظيف أصحاب الشهادات توظيفا مباشرا، دون المرور بمعاهد التكوين، التي تسلحهم لمواجهة أصعب مهنة على الإطلاق، فهل الحكومة تريد أن تبرهن لنا، بأنها، أي مهنة التعليم، أسهل مهنة، فاختزلت المسافات الطويلة التي كان يقطعها الطالب المعلم في عدة سنوات، يتعلم فيها التربية وعلم النفس وطرق التدريس، ويتدرب عدة ساعات في الأسبوع في المدارس التطبيقية، اختزلت كل هذه المدة الطويلة في مسابقة!!؟ أي بنجاح المترشح في مسابقة الثقافة العامة، يصير بين عشية ضحاها معلما، يحمل على عاتقه مسؤولية تربية الأجيال!!؟ لماذا تدفع الوزارة "بمجندين" ليس لهم أي تدريب نظري ولا ميداني، وتتركهم وحدهم يواجهون جيوشا من التلاميذ، لا يرون في معلميهم غير دمى يلهون بها سويعات؟ تغطية العيوب بسن مزيد من القوانين وعندما يتكلم البعض عن تدهور التعليم ومستواه المتدني، يغضب أهل الحل والربط، فيلجأون لتغطية عيوبهم، بسن مزيد "القوانين" والتعليمات والقرارات والمذكرات التي تتكدس على مكاتب المديرين حتى أصبحوا غارقين بأجسادهم وسط الأوراق، وغارقين بعقولهم في الأوامر المتهاطلة من كل المديريات آمرة مستعجلة، والتي تعقد الأمور أكثر فأكثر، ما يفرض على المنفذين الاستسلام للأمر الواقع، وقد يلجأون بدورهم إلى كتابة تقارير ليس فيها من الأرقام الصحيحة غير التي تشير إلى التعداد العام للتلاميذ والعمال، أي يكتبون تقارير تساير الأهداف السياسية التي تهدف إليها الإصلاحات. فالمدير مثلا باعتباره الحلقة الأخيرة التي يقع عليها تنفيذ القرارات، في واقع المدرسة الحالية، لم يعد ذلك الرجل الذي يجمع بين الإرشاد التربوي والتسيير الإداري، ولم يعد ذلك الرجل الوقور بعلمه وحكمته واتزانه المكتسبة من تجربته، ولا ذلك المسؤول الذي يرجع إليه الأساتذة والتلاميذ، حتى الأولياء والسلطات، لأخذ رأيه واستشارته، باعتباره عضوا في الجماعة المحلية، له نصيب من المسؤولية في المشاركة في تسيير شؤون مقاطعته الإدراية التي ينتمي إليها، ولم يعد ذلك الرجل المكتسي بلباس رجل التربية، فهو اليوم عارٍ من كل ذلك، جردته البيروقراطية، وحولته إلى عبارة عن ساعي البريد، ينقل بريد الوزارة منها وإليها ، حصروا دوره الذي يكشفه الواقع، في تبليغ التعليمات للموظفين كي يطبقوها دون نقاش، كما هو الشأن في النظام العسكري، أي هو أشبه ب"كابران"الجيش الذي تقع عليه مهمة تنفيذ أوامر الضباط، ثم بعد ذلك يرفع إليهم التقارير عن المسار الذي اتخذته التعليمات الواردة من السلطات العليا... أما المعلم فلم يعد بذلك الرجل الفنان الذي يشكل من التلاميذ لوحات فنية بلمساته السحرية، ولم يعد ذلك الرجل الرقيق المرهف الإحساس الذي يؤلمه أن يرى لوحاته تخزن في الدهاليز أو تباع في الأسواق بضاعة رخيصة، المعلم صار أو صيروه حمالا لبرامج، مهمته المكلف بها، تنحصر في تفريغ الحمولة في فضاء العمل، ولا يهمه بعد ذلك إن وصلت البضاعة إلى أصحابها أم لا. وأما التلميذ، الهدف الذي تجند له الوسائل، المؤسسات والمؤطرون والوسائل والبرامج... فهو ضائع بل مضيع، لأنه ضحية، ولا يمكن اعتباره غير ذلك، ذلك أن التربية تحول مجراها، فهو أي المسار، في اتجاه معاكس للسير الطبيعي للتيار، أي صار يجري من أسفل إلى أعلى. فقديما كنا نسمع ونرى أن الوزير ومدير التربية والمفتش ومدير المؤسسة والمعلم، وما بين أيديهم من وسائل وما في عقولهم من علم ومعرفة، وما لهم من سلطات، كله في خدمة الإنسان الصغير الذي نسميه التلميذ، الكل في خدمته، تهيئة له ليكون رجل المستقبل الذي تقوم عليه الدولة، والكل يسعى ليكون أحسن ممن سبقه، خدمة للهدف الأسمى، أي النهوض بالوطن الذي ضحى من أجله رجال شرفاء قدموا أغلى ما يملكون، دماءهم وأرواحهم!! أما اليوم، فهذه السلسلة من الموظفين والوسائل المسخرة، تعمل من أسفل إلى أعلى إرضاء للمسؤول الأعلى، وخدمة للهدف السياسي، تلك هي الحقيقة المشاهدة في الواقع، اختلطت المفاهيم، وانعكست الأمور، حتى صار أفراد المجتمع يعملون بما أصبح شعارا أو قاعدة سلوكية:"سلّكْ و اخلاصْ" . إهمال التكوين، هو إهمال للعنصر الأساسي في العملية التربوية، حتى أعود إلى التكوين، الذي أهمل وبإهماله أهملنا عنصرا أساسيا في العملية التربوية، أي المعلم، فالوزارة التي تنظم مسابقات للتوظيف، كان الأجدر بها أن تسميها مسابقة لتوظيف حمالي البرامج، فأنا أتصور ذلك الذي يسمى تجاوزا"أستاذ" ، ماذا يفعل غير مهمة التفريغ التي يحمّل بها؟ و لكن الذنب ليس ذنبه، ولا أريد بهذا الكلام الانتقاص من قيمة الأشخاص ودرجة علمهم، ولكن هو الواقع المر الذي تسير عليه أمور التربية والتعليم، القطاع الأخطر في الدولة، والأكثر حساسية. ( .. ) إني أكتب هذه الكلمات، وأنا تحت وقع تأثر نفسي شديد، وإني أتألم وأنا أرى ما يحدث، والحل لتكون الأوضاع أحسن حالا، كان موجودا منذ الاستقلال فألغي بقرارات نتساءل عن الهدف منها إن لم يكن ضعضعة كيان الدولة، وتمييع مستقبل البلاد. بعد الاستقلال ورثت الجزائر من جملة ما ورثت من الأشياء الحسنة، في مجال التربية، دور المعلمين التي تكون مربين تكوينا متكاملا، وفي السنوات السبيعينية ألغي العمل بنظام دور المعلمين الذي يستغرق فيه الطالب سنوات طويلة قبل أن يتخرج معلما، أو أستاذا، واستبدل بنظام المعاهد التكنولوجية للتربية، التي اختصرت مدة التكوين في عامين، وحدث ما حدث في هذا النظام من فوضى، تحت ضغط الحاجة إلى التأطير الفوري، ثم ألغي التكوين في المعاهد بعد غلقها هي الأخرى، واستبدل ذلك بصيغ مختلفة يطول الحديث عنها وفيها، وقد تكون لنا فرصة للحديث بإسهاب عن الموضوع مستقبلا، واستحدثت صيغ أخرى للتكوين، لم تستطع أن ترقى بل لم تستطع أن تبلغ هدفها، وآخرها التكوين عن بعد، وهو تكوين أكاديمي، موجه لغير حاملي الشهادات العليا، هدفه تحسين المستوى المعرفي، وتلبية ضغوط الوظيف العمومي الذي يشترط في الإطار أن يكون ذا شهادة معترف بها في قانون الوظيف العمومي. التكوين الحقيقي.. لا يذوب في رأي الآخرين وخلاصة القول، فإن إهمال قضية تكوين المعلمين قبل التحاقهم بالوظيفة، خطأ في رأيي، ينعكس سلبا على العملية التربوية، وآثاره خطيرة، لعل ما نراه من هشاشة المستوى، هو أكبر دليل على فشل سياسة التكوين المتبعة منذ إلغاء المعاهد المتخصصة، ومن ثم، فالاهتمام بالمعلم من حيث تكوينه تكوينا حقيقيا، ضرورة إن أردنا الخير لهذه البلاد، والتكوين الحقيقي يمر حتما، كما يبدو لي، من ضرورة العودة إلى نظام التكوين القديم، نظام دور المعلمين، الذي ألغي العمل به سنة 1970، مع اتخاذ الواقع الجزائري منطلقا محوريا، والأخذ بعين الاعتبار المحيط العالمي، دون أن نذوب في رأي الآخرين، أو نغرق في ما يعجنه غيرنا، في عملية النكوين والله أعلم !...