يظهر أن التهديدات التي لوح بها وزير التربية الوطنية، وجدت طريقها إلى المبتغى، بعد أن نطقت العدالة وأمرت المضربين بالعودة إلى العمل، والظاهر أن الاستجابة لأمر العدالة المحفوف بالتهديد، لم يؤثر على بعض الأساتذة، في بعض الثانويات، الذين مازلوا متمسكين بمطالبهم، ويستمرون في الإضراب، فهل هذا يعني بأن التهديدات لن تجد طريقها إلى التنفيذ، لسبب من الأسباب، أم أن التصميم على مواصلة الإضراب تختفي وراءه قضية أكبر من "لعبة الإضراب"؟ وقبل أن أقدم وجهة نظري حول ذلك، هذه بعض الاستنتاجات التي لخصتها من كلام الذين اقتربت منهم من أهل التعليم، ممن يعتبرون كضحايا المجتمع، الذي لا يريد أن يفهم مطالبهم، قال لي أحد المعلمين،: كيف تريد لقضيتنا أن يكون لها صدى، والمواطن يتساءل دائما عما نريد؟ أوماذا نريد بعد أن لبت الوزارة المطالب المرفوعة؟ وهم في هذا، لا ينظرون إلى مطالبنا إلا من زاوية مصلحتهم ومصلحة أبنائهم، ولا هم لهم فيما عدا ذلك. غير أن الشارع يقول عكس ذلك. إذا استثنينا رد فعل فدرالية أولياء التلاميذ الساخطة على استمرار الإضراب، فإننا لم نسمع عن احتجاج من الأولياء بصورة يدعونا إلى القول بأن مجتمع الأولياء غير راض، فسكوته سكوت ترقب، أواستقالة، بعد أن أعيته ظروف المعيشة التي تضغط عليه من كل جهة. فالإضرابات في كل القطاعات، والولي الذي يضرب عن العمل في قطاع الصحة مثلا، لا يمكن له أن ينكر على المعلم إضرابه، وإذا فعل، فهوغير منطقي، لأن دوافع الإضراب في كل القطاعات متشابهة إن لم تكن واحدة. أحد المواطنين له ابنان في التعليم المتوسط، وعامل في شركة وطنية عرفت إضرابا في المدة الأخيرة، قال بأن الإضراب حق، ولا ينكره أحد، غير أن الذي لا نراه بنفس المنظار، هوأن مستقبل أبنائنا على كف عفريت، وشبح السنة البيضاء يلوح في الأفق، بل، هوأبيض، بالنظر للتذبذب الحاصل منذ انطلاق السنة الدراسية، ويرى من جهة أخرى، بأن الاستمرار في الإضراب في قطاع حساس مثل التربية والتعليم، هوالذي نختلف فيه، واللوم هنا، لا يعود إلى أحد الطرفين دون الآخر، بل يعود لهما معا، الوزارة والنقابات. أما مواطن آخر، له ابنة في السنة الثالة ثانوي، ويعمل في قطاع التعليم، ولكنه غير مضرب، فيقول، بأن ما يحدث لا يخرج عن كونه صراع من أجل إثبات الوجود بالنسبة للنقابات الحرة التي همشت، ولا يعترف بها رسميا في الوزارة، وبالنسبة للوزارة، فهو صراع من أجل فرض منطق الوصي، الذي لا يناقش، باعتبارها الأدرى بمصلحة التلميذ والمعلم على حد سواء، والإثنان، الوزارة والنقابات، بما فيها النقابة الموالية للوصاية، يخطئون في حق الأجيال، وحق الوطن.. هذا الوطن الميتم! اقتربت من تلميذ يدرس في السنة الرابعة متوسط، يستعد لامتحان الشهادة، وسألته عن الإضراب، فقال بشيء من التهكم وهويبتسم:"عطلة مدفوعة الأجر! وقلت له، ولكن عندك امتحان؟ فقال وهو يهز كتفيه: ماذا أفعل بالشهادة؟ أما زميلته في نفس الحجرة، فقالت: الإضراب ليس شيئا جميلا، نحن لا نفهم لماذا يضعنا الكبار في الوسط ك"الفريت في كاسكروط"؟ وهذه أمّ وجدتها أمام باب المدرسة، تنتظر خروج ابنها، قالت : الحمد لله أن معلمي هذه المدرسة لم يدخلوا في إضراب، ثم أضافت : ابني تلميذ نجيب، يحب المدرسة، ويحب معلمته،، لوحدث إضراب في هذه المؤسسة لحدث شيء لإبني، لقد تعلق بالمدرسة أكثر من تعلقه بالبيت! وتدخلت امرأة أخرى كانت تسمع ما يدور بيننا من حديث وقالت: لا! غير معقول، لا أحد يفكر في مصلحة أبنائنا..إنهم مستقبل البلاد، يضيعون ويضيع معهم..ألا يمكن أن يتفاهموا؟ هذه بعض الآراء التي تبين أن المجتمع لا ينظر دائما بنفس النظرة إلى الإضرابات، فمتى كانت مصلحته في وسط الصراع، كان رأيه مخالفا لما يذهب إليه، لوكان هوالمضرب أوالداعي له، فالكل يتحرك بمنطق المصلحة، والربح والخسارة، أواحتلال مواقع النفوذ،... وما يحدث بين النقابات والإدارة لعبة حرب خفية لا يعلمها إلا أصحابها الذين يحركون خيوط اللعبة، والمواطن لا يرى سوى الآثار التي تترتب عليه، بصفته وليا للتلميذ، ولا يريد أن يبحث في ما وراء ذلك، لذلك مهما تكلمنا عن هذا الإضراب لن يظهر لنا سوى ما يريد الطرفان أن نراه، وما دام الأمر كذلك، علينا أن نعمل قوانا العقلية لاستكشاف ما ينوي عليه كل طرف، أي لماذا يتشبث كل واحد برأيه، إلى حد تضييع مصلحة الأبرياء والبلاد ككل. فماذا نرى، نحن الذين نشاهد الإضراب من خارج أسوار قلعة المضربين؟ نشاهد ..فوضى عارمة ..المؤسسات بعضها يعمل والبعض الآخر نصفه يعمل والنصف الآخر مضرب، وبعضها مضرب كلية، والتلاميذ في ذهاب وإياب، مشتتون بين الدخول الخروج، هؤلاء عندهم حصة والآخرون عندهم حصتان، وبين هذا وذاك، نراهم متسكعين في الشارع، وقد يعودون إلى الدار، أويهيمون في مكان ما، وقد تزيغ بهم أهواؤهم فيرتكبون أخطاء، بعيدا عن أعين المراقبين من أوليائهم أوالمدرسة، أويرتكبون حماقات لا يقدرون نتائجها، الحاصل أن التلميذ قد تصدر منه تصرفات غير محسوبة العواقب، ولا نتكلم هنا عن المسؤولية، لمن تعود، لأن المدرسة في إضراب والأهل في مشاغلهم وفي اعتقادهم أن ابنهم في المؤسسة التي تحميه، هذا إذن جانب من الأخطار الذي يمكن أن يتعرض له التلميذ دون وعي منه، ولا ندري من يتحمل مسؤوليته. هذا من جانب التلميذ، أما من جانب المؤسسة، فإن فوضى أخرى تسود هناك، بين المضرب وغير المضرب، وقد تنشب مشادات بين المؤيدين للإضراب والمعارضين، كون طاقم المؤسسة يتوزع بين عدة نقابات، أوغير منضوين أصلا تحت أي غطاء نقابي، فنجد مدا وجذبا، وحساسية بين طرف وآخر، وإذا دخلنا إلى حرم أنفسهم، نجد المعنويات متأرجحة بين الأمل في نجاح الإضراب والخيبة، أوفقدان الأمل في أي نتيجة، وفي خضم هذا كله، لا أحد يفكر في العمل كقيمة سامية يجب المحافظة عليه، وبالتالي لا نجد من يفكر في تقديم الحد الأدنى لهذه البراءات، لأن الأمر بين النقابات والإدارة بلغ أشده، وما زاد الطين بلة، أن الإدارة لا تعترف اعترافا صريحا بالنقابات المضربة، فاعترافها الوحيد هوللنقابة المنضوية تحت مظلة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، الذي مازال يسيطر على الطريق الموصل إلى طاولة التحاور مع الحكومة، وكأني بالوزارة وتلك النقابات الحرة، كلاعبي الدومينو، كل واحد يمسك القطعة التي يغلق بها اللعبة على خصمه، ولا ينزلها إلى الرقعة، حتى يضمن أكبر قدر من المكاسب، ذلك هو حالهم، فكل واحد يستعرض عضلاته أمام الآخر. وأما داخل أسوار قلعة الصراع، حيث ترتب الخطط للإيقاع بالآخر، وقد يحق لنا أن نسمي ما يحدث بين النقابات الحرة والوزارة، حربا بين أبناء كأنما لم يلدهم رحم وطن واحد، لا يستطيعون حتى قبول الجلوس حول طاولة واحدة ينظرون في وجه بعضهم البعض، ويتبادلون كلمات دافئة لإذابة جليد تراكم منذ سنوات، فكل واحد يتجنب التنازل عن جزء من كبريائه لتلطيف الأجواء وتقريب وجهات النظر، حتى يجري التفاهم مجراه، فلجوء النقابات إلى الاستنجاد بتدخل الرئيس له أكثر من دلالة. قد يكون المشكل العالق بينهما تافها لا يستحق هدر كل هذا الوقت الثمين، وضياع المصالح، ونظرا لعدم فهم كل واحد للآخر، وتمسك كل طرف بصواب رأيه، وأنه الأكثر درايته من غيره بمصلحة المعنيين، هوالذي دفع الأمور إلى درجة من التعفن، الذي لا يخدم أحدا، ثم إن اللجوء إلى إلى رئيس الدولة أراه ضعفا، من الجانبين، . فالتصرف العقلاني يقتضي من نخبة المجتمع أن تزن الأمور بميزان العقل، وفالضغط الممارس من طرف النقابات على الوزارة هوضغط كما يبدو، للتموقع في الساحة، بعد أن اعتنقد ا لعمال مطالبهم، ويرون في ذلك أحقيتهم، ولا نناقشهم في ذلك، ولكن نرى أن الحرب الحقيقية هي بين النقابات المستقلة، والنقابة المنضوية تحت قبة أول قصر أول ماي، التي تعمل في نفس خط الحكومة، مادامت طرفا معلنا لتجسيد برنامج الرئيس الذي تعمل الأحزاب المتحالفة عن طريق الحكومة إلى ذلك، ومن ثم، فالصراع الحقيقي ليس بين النقابات والوزارة، بل الصراع الحقيقي بين تحالف نقابات مستقلة عن التحالف الرئاسي، وربما هي منضوية تحت لواء المعارضة السياسية، هوبين المعارضة والتحالف، وما النقابات المستقلة "الحرة" والمخد قة، سوى بيادق تتحرك في الساحة، كلما دعت الحاجة لتحريكها.