أينما وليّت وجهك في هذا الموسم وفي جميع الاتجاهات إلا وصادفت الناس من مختلف الأعمار والفئات يخوضون في الشأن السياسي. والأدهى والأمر أن هذا لا يحدث في أماكن محدّدة، بل تقريبا بجميع الأماكن والساحات وحتى أماكن العمل والمؤسسات. أين تجدهم فرادى وجماعات يناقشون الأوضاع ويترقّبون أخرى حتى وصل بهم الشأن لدرجة العراك اللفظي والصراخ نتيجة تناطح الأفكار والقناعات. هكذا يبدو المجتمع الجزائري اليوم، هذه الظاهرة لم تترك أية فئة إلا وانتشرت فيها عدوى التحليل والنقاش وكأن الجميع خرج لتوه جراء كبت مرير ومدفون عاشوه سنين عدة. وحينما جاءت اللحظة المناسبة انفجر الحديث مثلما تنفجر البراكين بطرائق فجائية، زيادة عن هذا فإن المرحلة هذه بالذات لم تترك أي صنف من البشر . إلا وعرّجت عليه لتضمّه وسط الزحمة وتُشركه، فأنت تجد الدكتور الجامعي وتجد الطالب والفلاح والتاجر والعامل البسيط وحتى الأمي الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة. تجد كل هؤلاء مشاركين ولو من باب الفضول و الحماس، وكأنها أمور شخصية تلامس خصوصياتهم. وبالفعل فلم يحدث في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال . وأن شاهدنا هذا الحجم من التجمعات، فقد ترك الناس تقريبا جميع مشاغلهم وانخرطوا كليا في مناقشة التطورات التي تطرأ على الساحة السياسية. ومنهم من تجده يحفظ جميع الأسماء الوزارية ومحلّلي القنوات والشخصيات وتاريخهم النضالي، ويحفظ كذلك تواريخ الأحداث بدقة متناهية. وبعدها يجري هكذا تلقائيا المقارنات مع نفسه ويعطيك النتيجة وما يمكن حدوثه وترقبه لاحقا. كيف لا يحدث هذا خاصة ونحن في عصر تطوّر وسائل الاتصال المذهل والمتشابك والمتعدد، فقد صار بمكان أن يجد أي متابع ومحب للشأن السياسي كل ما يبحث عنه. سواء على صفحات الفايسبوك أو اليوتوب أو على الصحف والقنوات، وهنا لا نستطيع القول بأن الكل وقاب قوسين صار محللا سياسي، وإنما لهذه الظاهرة أسبابها الموضوعية التي أوجدتها على أرض الواقع. أولا التعطش منقطع النظير والذي غُلّف لسنوات بنوع من الخوف وعدم الخوض في السياسة نتيجة وجود خطوط حمراء. ثانيا وبعد أن جلب الحراك نتائجه المرجوة بدأ الجميع يتحرر أكثر، وكأن كل مواطن صار يعتقد بأن القضية قضيته والشأن شأنه وأن خروجه للتظاهر لن يذهب هدرا. فقد ساهم في القضاء على كثير من مظاهر الفساد في البلاد، وكان طرفا جزئيا في إسقاط كثير من رموزه، وبالتالي فإنه يتلهف للحديث عن كل مكسب تم تحقيقه. هذا الوعي بالأمور السياسية ودهاليزها نتمناه أن يُستغل في مسائل أخرى؛ لأنه بالمختصر المفيد وعي عابر، أي صالح لمرحلة دون أخرى. فغدا عندما تعود الأمور إلى نصابها ويقتنع الجميع بأن الجزء الأكبر من مطالبه قد تحقّق، كما يقال «يتفرق الجميع» ويغادر الكل نحو وجهته. ومادام أن الوعي السياسي موجود وقابل للحياة والتفعيل لماذا لا يكون هناك وعي اجتماعي وثقافي على المدى البعيد؛ لأنهما الأهم في بناء مجتمع متماسك ومنظم. وهذا هو الأصل في الأشياء، وهذا ما نصبو إليه ونبتغي الاقتراب منه؛ لأن الأوطان والأمم العظيمة تُبنى بوعي أبنائها المتنوع والحي المنير. ويبدو أن هذا هو الذي بدأت ملامحه تظهر أكثر للوجود، فالأمل مع شباب لاحظناهم من خلال تصريحاتهم يحملون في ذواتهم أرصدة كبيرة من العلم والتعلم. من خلالهما يستطيعون مقارعة كل المحن ومن جهة صناعة غد أفضل إن شاء الله.