''أخدم من أجل أن تنقذ''.. هو شعار الحماية المدنية في كل تدخلاتها ، إلا أن المهمة هذه المرة كانت مختلفة..فلا وجود لكارثة طبيعة ولا لحوادث مميتة .. الحماية المدنية وقفت عند المعاناة والظروف الكارثية التي يعيشها الجزائريون في أقصى الصحراء على الحدود المالية لأرض الوطن، وبالضبط في منطقتي برج باجي المختار وتيمياوين، اللتين كانتا مقصد أولى قوافل المساعدات التي تنظمها الحماية المدنية. 2500 كلم للوصول إلى ''تيمياوين'' المنسية كانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة صباحا، حين انطلقنا من الوحدة الوطنية للتدريب والتدخل بالحميز، على متن أربع سيارات رباعية الدفع رفقة شاحنة وسيارة إسعاف، وبعد ثلاثة أيام من السير المضني وصلنا في حوالي الساعة الواحدة إلى تيمياوين، إحدى بلديات دائرة برج باجي المختار والتي تقع على بعد 150 كيلومتر من مقر الدائرة، أين باشرت القافلة نشاطها في ذات اليوم .. الشمس حارقة على طول الطريق، الحرارة لا تحتمل فقلما تنزل دون ال45 درجة، أما المسالك التي لا مرشد فيها إلا بعض المعالم البيضاء التي كنا نجدها على مسافة كل كيلومترين في الطريق الصحراوي بين أدرار وبرج باجي المختار، فكانت معاناة أخرى تكبدناها رفقة عناصر قافلة الحماية المدنية، الأمر الذي اضطرنا إلى استعمال دليل عارف بطرقات الصحراء وعروقها، خاصة في ظل حوادث الضياع المتكررة في المنطقة والتي كان آخرها ضياع 4 أشخاص عثر على اثنين منهم ميتين من قبل جنود كتيبة المشاة في النقطة الكيلومترية 200 بين رڤان وبرج باجي المختار، وذلك قبل يوم واحد فقط من مرورنا على المنطقة ...ظروف المنطقة وما يعرف عنها من خطورة جعلنا نتنقل رفقة 4 سيارات للدرك الوطني وسيارتين للجيش، فضلا عن شاحنة عسكرية في الطريق من ''برج باجي المختار'' إلى'' تيمياوين'' الذي لم يخل من بعض التوقفات من أجل تأكد عناصر الدرك الوطني من كل ما يثير الشك ..كانت أولى الخرجات في ذلك اليوم أصعبها ...انطلقت القافلة بحثا عن البدو الرحل المنتشرين في الصحراء والذين يتنقلون بصورة دائمة فلا يعرف لهم عنوان، إلى أن بلغنا ''إين غزال '' والتي تبعد 90 كيلومترا عن ''تيمياوين'' ..كان الوقت ضيقا والفريق الطبي المكون من ستة أطباء يبذل كل ما في وسعه من أجل تقديم خدماته ويد المساعدة إلى أكبر عدد ممكن من العائلات البدوية التي هي في أمس الحاجة إلى مثل هذه المبادرة الإنسانية..كانت الإنطلاقة من إحدى الخيم التي كانت في حقيقة الأمر عبارة عن قطعة قماش يختبئ تحتها إحدى عشر شخصا من بينهم 6 أطفال وعجوز طاعنة في السن ...ورغم صعوبة المهمة وانعدام أبسط الظروف الملائمة، لم تكن همة وعزيمة النساء في الفريق تختلف عن همة الرجال ولا همة الشباب عن الكهول ولا الأطباء عن غيرهم ..الكل في جو حماسة لا متناهية، يبادرون بتقديم يد المساعدة للجميع ..الأطباء يفحصون العائلات ويقدمون الأدوية، في حين تتكفل البقية بتقديم المواد الغذائية وبعض اللوازم الضرورية والمساعدات الإنسانية...كان الزئبق في تلك الأمسية في حدود 48 درجة، إلا أنها بدت قصيرة ولم ينه فريق القافلة عمله إلا بعد حلول الظلام .. كان وصول قافلة الحماية المدنية إلى المنطقة، مبعثا للحياة في'' إين غزال'' التي بدت ميتة ومهجورة وقت وصولنا إليها... كان الجميع يتقرب من مكان تواجدنا ويحاول الحديث معنا ... اضطرنا حلول الظلام إلى العودة إلى البلدية ''تيمياوين'' بعد أن كنا قد مررنا على 21 عائلة من البدو .. قضى الجميع تلك الليلة في العراء أين وقفنا عند المعاناة اليومية للسكان بانقطاع التيار الكهربائي على الساعة الثانية صباحا من كل يوم، كون المدينة بأكملها تعتمد على مولد كهربائي يستحيل صموده لأكثر من 12 ساعة. طبيب لأكثر من 8000 نسمة ''بتيمياوين'' الشمس تشرق من جديد على''تيمياوين'' والقافلة تستقبل يومها الثاني، أين يشمر أعضاء الفريق عن سواعدهم ويتوجه كل منهم لأداء مهمته، لكن هذه المرة في المركز الصحي الوحيد في المكان والذي اقتصر طاقمه على طبيب وحيد أيضا ..توزع الأطباء بين الغرف القليلة بالمركز ..فانطلقت الطبيبتان كريمة رحال ولويزة بوزيد في معاينة مرضاهما في غرفة صغيرة ليس فيها غير سرير يتيم ومكتب متهرئ، وكانت الظروف والأجهزة ذاتها التي يعمل فيها الطبيبان معموري وطالبي في الغرفتين المجاورتين ..الحالة العامة للمركز الصحي كانت أبعد ما تكون عما نعرفه نحن عن المراكز الصحية في شمال الوطن ...كان المكان أشبه بخم للدجاج ...ورغم ذلك، لم يكن انعدام التجهيزات عائقا أمام أطباء الحماية المدنية المكونين خصوصا للعمل في ظروف مماثلة، حسب ما أكده رئيس مكتب الإعلام و التوجيه الرائد عاشور فاروق الذي قال ''إنهم متخصصون في الإستعجالات والعمل في الظروف الإستثنائية أين يضطرون إلى الإعتماد على أيديهم في تشخيص المرض وتقديم المساعدة اللازمة ''..كانت أروقة المركز مزدحمة والمرضى يتدفقون بصورة هائلة ...الكل كان يود رؤية الأطباء حسب ''نونه'' ذات الخمسة عشر ربيعا والتي قدمت رفقة صغيرها لإجراء فحص طبي لكليهما، حيث أخبرتني هذه الأخيرة أن قدوم قافلة الحماية المدنية فرصة لا تعوض بالنسبة إلى الجميع وأضافت ''الناس هنا ڤع مراض والطبة ما كاش''..كما قالت لي الفتاة التي كانت من بين القلائل الذين يجيدون العربية ''عندي عام مارحتش للطبيب، آخر مرة رحت لأدرار باش نشوف طبيب الجلد'' ..كانت مهمة السيطرة على هؤلاء صعبة خاصة مع ''استحالة'' التواصل معهم، إلا عن طريق المترجمين الذين يتكلمون الترڤية.. فبمجرد فتح باب غرفة المعاينة يتدفق الجميع إلى الداخل ...كانت تلك صورة طبيعية لأناس أكد معظمهم أنهم لم يخضعوا لفحص طبي منذ سنوات ... الغرفة الوحيدة المتبقية في المركز جعل منها الطبيبان كمال آيت محمد ويوسف صادلي، صيدلية لتوزيع الأدوية على المرضى الذين وقفوا في طوابير أمام النافذة الصغيرة..ظل الجميع يعمل بذات الوتيرة إلى غاية الثالثة زوالا ..كان عدد المرضى الذين تم الكشف عنهم في تلك الساعة 200 مريض معظمهم من النساء والأطفال.. بعد ساعتين انطلقت قافلة الحماية المدنية التي رسمت البسمة على أوجه البدو الذين كانت ملامح الفرحة بادية على أوجههم المسمرة، وهو ما قاله ''خالد'' ابن مدينة سطيف الذي يتواجد في مهمة في المنطقة منذ سنتين'' إنه سيكون موضوع حديث الجميع لمدة شهر كامل''... برج باجي المختار..صومال الجزائر وصلنا إلى برج باجي المختار المدينة الحديثة التي يقول أهلها إنها ظهرت إلى الوجود في أواخر السبعينات في ذلك اليوم وقضينا هناك الليلة لنباشر العمل في صباح الغد...على الساعة الثامنة توجه 4 أطباء إلى المركز الجواري للصحة العمومية الوحيد بالبلدية، والذي يعمل به 5 أطباء حسب ما أخبرنا به رئيس الدائرة إلا أننا لم نجد في ذلك اليوم الذي صادف يوم الجمعة إلا طبيبا واحدا كان في المناوبة الليلية ..لم تكن ظروف العمل تختلف عن تلك التي واجهها فريق القافلة في تيمياوين، فالإمكانات معدومة والجميع في حاجة إلى المساعدة مع نقص التغطية الصحية في المنطقة. أكثر من 70 معاقا لا يملكون بطاقات الإعاقة في برج باجي المختار ..نظرا إلى وجود الكثير من الأشخاص المعاقين الذين يتعذر تنقلهم إلى المركز الصحي، خرج الطبيبان معموري وآيت محمد في جولة في أحياء المنطقة لتقديم المساعدات المنزلية .. انطلقنا على متن السيارة نجوب الأحياء الفقيرة على أطراف المدينة، المتجول في المكان يعتقد أنه في أحد الأحياء الإفريقية ؟ كان برفقتنا موظف النشاط الإجتماعي وآخر من البلدية يرشداننا إلى منازل المحتاجين والمرضى فكانت البداية من بيت إحدى النساء المقعدات، وقد كانت امرأة متقدمة في السن تعاني من أمراض متعددة حسب ما كشفت عنه معاينة العميد معموري الذي قال، إن الحاجة فاطنة تعاني من فقر في الدم ناجم عن سوء التغذية كغيرها من العديد من سكان المنطقة، فضلا عن إعاقة في النصف السفلي من الجسم والتي يمكن معالجتها فقط ببعض العناية والتمارين الرياضية...أما المحطة الثانية فكانت بيت عجوز في الستين دخلنا إلى بيته أين كان ممددا على فراش رث في زاوية الغرفة يداه ترتعشان بشدة، جسمه هزيل جدا وعظامه بارزة ...وكون المريض كان عاجزا عن الكلام فإن معموري كان يتوجه بالحديث إلى ابنه الذي أخبرنا أنه أصيب بالإعاقة بعد أن تاه في الصحراء ليعثر عليه بعد ثلاثة أيام في تلك الحالة ..ككل مرة وصف الدكتور آيت محمد الدواء للمريض إلا أنه في هذه المرة لم يفوت الفرصة للحديث إلى موظف النشاط الإجتماعي وتذكيره بضرورة التكفل بهؤلاء ...كانت الحرارة في ذلك الصباح قاتلة والزوابع الرملية قوية، إلا أن الطبيبين آيت محمد ومعموري واصلا جولتهما في ذلك الحي المتطرف ببلدية برج باجي المختار، والتي كانت علامات الفقر المدقع بادية على سكانه وإن كانت الحالة العامة لمعظم سكان البلدية دون المتوسطة..بعد التوقف لساعتين في فترة الغداء واصل الجميع عملهم كل في مكانه، كما واصل الرائد عاشور مهمة توزيع المواد الغذائية على السكان المحتاجين رفقة فريق من أعوان الحماية المدنية ... فقر الدم، الجرب والنقرس.. ثالوث يكتسح برج باجي المختار وضواحيها كانت الساعة تشير إلى الثامنة حين عاد الجميع إلى الإقامة لنجتمع بعدها على العشاء ...وكعادتهم استغل فريق القافلة فرصة العشاء للحديث عن حصيلة العمل وتقييمه، وهو ما قاله الرائد عاشور ''إنها عملية روتينية لدى أعوان الحماية المدنية يقومون بها بعد كل مهمة'' ...تكلم الأطباء عن الوضعية العامة للسكان الذين يلزمهم الكثير من الرعاية، حيث تكلمت الدكتورة بن بوزيد عن الأمراض المنتشرة في البلديتين'' والتي يعاني منها الجميع تقريبا وعلى رأسها فقر الدم الذي يعود إلى سوء التغذية والإفراط في شرب الشاي ''فالغذاء الأساسي للأغلبية الساحقة للسكان حسب ما أكده هؤلاء للأطباء هو الحليب والخبز .. في حين أخبرني العميد معموري أن غالبية السكان الذين تم الكشف عنهم يعانون من داءي الجرب والنقرس وهو ما أرجعه الأطباء إلى نقص في النظافة، خاصة مع الظروف القاسية التي يعاني منها سكان المنطقة الذين يتنقل غالبيتهم لجلب الماء ..رغم ملامح التعب التي كانت بادية على ملامح الجميع والظروف القاسية التي كانوا يعملون فيها باختلاف رتبهم ..إلا أن القسط الأكبر من الحديث في تلك الأمسية كان عن القافلة القادمة التي من المتوقع أن تكون لصالح ''تين زاواتين'' التي يعاني سكانها أيضا ما يعانيه سكان ''برج باجي المختار'' و'' تيمياوين'' حيث أبدي الجميع استعدادهم للإلتحاق بها رغم ما عانوه من صعاب في هذه القافلة، حيث قال الرائد عاشور ''إن البسمة التي كانوا يرونها على أوجه هؤلاء هي من تدفعهم إلى العودة إلى ذلك المكان النائي الذي يحتاج سكانه حقا إلى يد عون تخفف عنهم ''.