ولدوا في فرنسا تربوا فيها ولا يعرفون غيرها... هم في الأوراق فرنسيون والناظر إليهم لا يشك للحظة في ذلك، فكثير منهم لا يتكلم غير الفرنسية إلا أنهم إلى حد اليوم لا يملكون حتى الخيار في اختيار مكان إقامتهم فأحياؤهم معروفة وظروف معيشتهم كذلك معروفة. كانت الدنيا شتاء والثلج يغطي مدينة ''غرونوبل'' وسط شرق فرنسا، فقد كان ذلك اليوم الخامس من شهر جانفي من هذه السنة، حين كنت مارة على متن السيارة رفقة شقيقي، لم أكن في ذلك الوقت في مهمة عمل إلا أن الأحداث المتسارعة التي عرفتها المدينة فيما بعد، كانت الدافع وراء كتابتي لهذا الروبورتاج بعد قتل الجزائري المتورط في سرقة كازينو.. طبعا ككل شخص يزور مدينة لأول مرة فإن البنايات والشوارع وحتى الأشجار تثير فضوله.. كان من بين الأسئلة التي طرحتها في ذلك اليوم التي فتحت بابا للنقاش أصبح اليوم حديث فرنسا كلها هو لما كان يبدو حي ''فيل نوف''، الذي لا يمت اسمه بصلة إلى مظهره عبارة عن مجموعة من البنايات الضخمة رمادية اللون التي لونت قمة كل منها بلون مغاير، كان المنظر العام للحي الذي تكاد المساحات الخضراء فيه تنقرض كئيبا، خاصة مع اللون الرمادي الذي شابه لون سماء ''غرونوبل'' في ذلك الشتاء، ''فيل نوف'' قد يكون أكبر حي في المدينة، فحجمه يعادل حجم مدينة جزائرية، حيث يقطن بهذا الأخير 11000 ساكن، من 40 جنسية مختلفة، معظمهم جزائريون موزعون على 4200 شقة، تقول آخر الإحصائيات أن 30 من المائة منهم شباب، زائره يكتشف من الوهلة الأولى أنه يختلف عن الأحياء الأخرى في ''غرونوبل''، لقد بدت المدينة جميلة جدا في عيني خاصة الجزء القديم منها الذي بدت لي شوارعه الضيقة أشبه بأحياء ''فينيس'' الإيطالية، إلا أن بعض الأحياء في الجزء الجديد وإن قلت جديدا مقارنة بعمر المدينة بدت جد مختلفة، كانت إجابة شقيقي والتي فتحت حديثا طويلا، أن ذلك هو حي '' فيل نوف'' المعروف في المدينة كلها بأنه وكر العصابات والمشاكل ومخبأ الخارجين عن القانون في نظر الحكومة الفرنسية. مداهمات استفزازية لإشعال فتيل الفتنة قال '' فيصل'' الذي يعيش في المدينة منذ أكثر من عشر سنوات ''إن كان هنالك عدو للسلطات الفرنسية فهو سكان فيل نوف''، و إن كان لم يستثنِ أحدا في كلامه إلا أنه قصد الأغلبية ليعود ويقول ''لا هوما يحملو لابوليس ولا لابوليس تحملهم''، وهو ما بدا جد غريب بالنسبة لي، حيث أضاف هذا الأخير الذي يسكن في ''اشيرول'' التي لا تبعد كثيرا عن الحي، ''أكثر مما تتخيلين فحتى الشرطة لا تجرؤ على الدخول إلى المكان الذي يعتبر مصدر قلق لها دون جلب التعزيزات الأمنية اللازمة''، فسيارة الشرطة التي تتجول في المدينة في دوريات عادية لا تتجرأ على ذلك أو القيام بدورياتها مثلما تفعل في كل الأحياء الأخرى'' ... لو لم أكن أعرف أخي جيدا وأعرف أنه من المهتمين بشؤون المسلمين عموما والجزائريين خصوصا في فرنسا، لكنت اعتقدت في تلك اللحظة أنه ضد هؤلاء، إلا أن كلامه الذي جاء بعد أن شرح لي علاقة الشرطة بسكان ''فيل نوف''، والتي قال إنها حقيقة يعرفها كل سكان غرونوبل من مشرقها إلى مغربها فسر مقصده... استطرد وقال ''لا يجب أن تكون نظرتنا إلى الأشياء محدودة فلابد من البحث وراء الأشياء ومعرفة الأسباب''، ثم قال إن أحسن ما يمكن أن يفسر هذه العداوة وأسبابها التي تجعل ردود أفعالهم في نظر الكثيرين لها جانب من المنطقية، هو حادث وقع قبل شهور في الحي وتناقله الجميع لما أحدثه من ثورة لدى هؤلاء، يقول ''فيصل'' إن مصالح الشرطة التي تملك مقرا لا يبعد إلا أمتارا عن الحي قررت الدخول إلى هذا الأخير من أجل التفتيش وإن كان في حقيقة الأمر دورية عادية، وهو ما حصل حين توجهت قوات هذه الأخيرة بتعزيز أمني كبير وألبسة خاصة ومسلحة بأحسن ما تملك كأنها متوجهة إلى حرب.. كان دخولهم إلى المكان سببا في اشتعال فتيل العنف الذي تصاعد دخانه إلى أن أدى إلى وقوع اشتباكات خطيرة بين الجانبين انتهت بقيام السلطات باعتقال بعض الشباب الجزائريين الذين اتهمتهم بالإجرام والخروج عن القانون وهو ما جاءت أصلا من أجله، إن العداوة بين سكان الحي والأجانب المهضومة حقوقهم يجعل من الصعب التصديق إذا ما كان هؤلاء من تتهمهم فرنسا بالإجرام حقا مجرمون!... أجل تطرح علامات استفهام وتعجب عديدة حول هذه النقطة .. لا عمل للأسماء العربية حتى وإن تعلق الأمر بالنخبة لم تكن عملية التفتيش في الحي عملية عادية حسبما روى ''جمال'' ابن بسكرة الذي يعيش في الحي منذ سنوات وإن كان ضد تصرفات هؤلاء الشباب في الكثير من النقاط، حيث أصر خلال حديثه معي على أن ''ما تعرض إليه بودودو يدخل ضمن مخاطر المهنة'' وكان يصر في كل مرة على أن مصيره كان معروفا وطريقة موته عادلة، إلا أن هذا الأخير أصر أيضا على العودة إلى أصول المشكلة، فقال إنه كغيره يرى أن هؤلاء كانوا يريدون إهانة هؤلاء وإبلاغهم رسالة فحواها أنهم إن كانوا يعتقدون أنهم غير مقدور عليهم فهم مخطئون''، يقول جمال إن الشرطة قامت باختيار جماعة من الشباب الجزائريين وأخرجتهم إلى الساحة التي تتوسط الحي وأمام الجميع جردتهم من معظم ثيابهم، كما أضاف هذا الأخير الذي كان يراقب ما يجري من نافذة بيته المتواجد في الطابق الخامس والمطلة على المكان، ''رؤية تلك المشاهد جعلتني أتذكر ما يروى وما شاهدته من صور لسجن غوانتنامو الأمريكي''، وأضاف هذا الأخير ''لابد أن نتخيل شعور هؤلاء الذين تلقوا صفعة ليست بالهينة لكرامتهم.. ويضيف ''أنا وإن كنت من الشباب المثقفين حاملي الجنسية الفرنسية والذين لهم حق الأرض، إلا أنني في ذات الحالة مع هؤلاء، وذات النظرة التي توجهها الحكومة إلى هؤلاء توجهها لنا نحن النخبة''، استطرد جمال قليلا وكأنه أراد الابتعاد عن أحداث ''فيل نوف''، وعاد ونطق هذه الكلمات التي بدا أنها تحز في نفسه كثيرا، ''أنا أيضا كنت ضحية العنصرية لمرات عديدة''، وبدون أن أسأل كيف أجابني جمال ''أنا ورغم أنني من المتفوقين الذين أرسلتهم الحكومة الفرنسية إلى كندا للحصول على واحدة من الشهادات الأكثر أهمية في فرنسا وهي هندسة تسيير المؤسسات، الأمر الذي أوهمني في ذلك الوقت أنني أتساوى بذلك مع غيري من الفرنسيين، إلا أن العودة إلى فرنسا لم تكن كالخروج منها، فبعد أن وطئت قدماي أرض فرنسا عرفت أننا أبدا لسنا متساوين، فالفرنسيون الثلاث الذين كانوا معي حظوا بأهم المناصب، في حين ظللت أنا وفقط لأن اسمي جمال أسمع العبارة ذاتها في كل مرة ''عرضكم مغري إلا أننا متأسفون''، ثم يضيف جمال ''حتى عند الترشح لذات المنصب مع من يملكون كفاءات أقل مما أملك يحصل الآخر على فرصة العمل لأن اسمه جون بيير أو باتريك''. ساركوزي يستثمر في الحي تحسبا لانتخابات 2012 كان الحديث مع جمال طويلا وشيقا إلا أن عبد العزيز الذي اتصل هو حين سمع بأنني أكتب هذا الروبورتاج، أثار لدي العديد من علامات الإستفهام التي أعتقد أنني إلى اليوم لازلت أبحث عن إجابات نهائية لها، خاصة وأنني أتكلم عن ''بلد الجمال والحريات'' الذي يملك وجها آخر يتجاهله العديد، أو ربما لأنني أتكلم عن فرنسا الصديقة العدو، يقول ''عبد العزيز'' المغترب حديثا، الأمر بالنسبة لنا ولهم ليس سيان فأنا ولدت في الجزائر، أتكلم العربية وأعرف بلدي جيدا وبعد 12 سنة في فرنسا لازلت أمشي في شوارعها على أنني جزائري، يأتي يوم أعود فيه بلا رجعة إلى أرض الوطن، أما هم فقد ولد آباؤهم ومنهم حتى من ولد أجدادهم هناك، يعرفون أنهم جزائريون ويعتزون بذلك إلا أنهم أيضا يعتبرون أنفسهم فرنسيين، في حين لا يتلقون المعادلة التي تنم عن ذلك'' ... يسكت عبد العزيز قليلا ثم يعود ويقول ''أنا ورغم أن وجودي في حي مليء بالمشاكل يزعجني بعض الشيء، إلا أنني لا أنكر أنني أتفهم جيدا شعور هؤلاء فهم يحسون بأنهم لا ينتمون إلى مكان وأنه لا وطن لهم .. حتى أفعالهم هذه أعتقد ما هي إلا رد فعل عما يحسون به من تهميش ودونية وإهانة خاصة، وأن الوضع لا يزداد إلا تأزما في السنوات الأخيرة حتى بالنسبة لنا نحن المهاجرون الجدد مع الهجومات التي يشنها المتطرفون في كل مرة على كل ماهو إسلامي ''... يقول عبد العزيز إن إضرام شباب الحي النار في مركز الشرطة وسياراته حسبما يتناقله السكان، لم يكن الشيء الغريب عن هؤلاء وعن جميع المغتربين الذين ينتفضون بشدة بعد كل ضربة يتلقونها خاصة بعد وصول الرئيس الجديد ...أخبرني عبد العزيز القاطن في ''غرو نوبل'' أيضا أن حادثة كازينو مدينة ''ايرياج'' الأخيرة والتي قتل على إثرها الجزائري برصاص السلطات الفرنسية بدعوى سرقته ل40000 أورو من هذا الأخير، لم تكن حادثة فريدة من نوعها، وأن السبب الوحيد وراء ذياعها بهذه الطريقة هو تصريحات الرئيس الذي يسعى إلى لملمة ما بقي له بعد الإنتخابات القادمة بعد الحادثة، فالجميع يعرف أن السلطات تبحث عن الأسباب التي توجه إثرها أصابع الإتهام لهؤلاء، كما أضاف عبد العزيز الذي قدم إلى فرنسا قبل عشر سنوات من برج بوعريريج أن المتداول بين السكان بعد وقوع الحادثة، هو أن الشرطة لم تكن مضطرة أصلا إلى إطلاق النار في تلك الليلة، وكان من الممكن أن تلجأ إلى اعتقال المتهم الذي كان فقط رفقة صديقه بكل بساطة. أحياء بدون مواقف ولا شاشات لأن من بها عرب مخربون ''سارة'' الشابةالجزائرية خريجة جامعة ''ستوندال'' ب''غرو نوبل'' التي عرفني عليها أصدقاء وأنا هنالك قبل شهور امتنعت عن الحديث عن الموضوع في بادئ الأمر فمجرد فكرة الحديث مع الصحافة وخاصة الجزائرية فكرة مرعبة بالنسبة للجميع، خاصة بعد تصريحات الرئيس العدائية قبل أيام في المدينة رغم أن هذا الموضوع بالذات كان يشغل معظم أحاديثنا قبل وقت ليس بالطويل إلا أن الموازين انقلبت الآن ... هذه الأخيرة وبعد محاولاتي العديدة وطمأنتها بأنني لن أذكر اسمها وأن كل ما أنا في حاجة إليه هو شهادتها اطمأنت إلى الأمر ... اتصلت بسارة بعد مغادرتي للمكتب مساء وكم كان الحديث طويلا وشيقا، أخبرتني سارة أنه ليس لها ما تضيفه عما كنا نقوله سابقا إلا أن كل ما حصل الآن هو أن الأمور قد أصبحت فاضحة والعداء مكشوفا، وبما أنهم هم من يتكلمون سنبقى نحن في نظرهم الأجانب الذين جاؤوا من أجل التخريب والتكسير والتدمير'' .. تكلمت سارة قليلا ثم عادت وسألتني ''ألم تتساءلي يوما لم أحياء الجزائريين والمغاربة عموما لا يوجد في مواقف المترو بها شاشة تشير إلى مواقف الإنطلاق والوصول وما إلى ذلك مثل الأحياء الأخرى؟ وبدون أن تنتظر إجابتي أجابت هي بكل بساطة لأنهم يقولون إننا نحطمها وما تحمله الكلمة من معنى وهو ما لا يتوقف عند الشاشات فقط، أليس من الواجب أن نسأل لم يحطم هؤلاء شاشات هم المنتفع منها بكل بساطة، لأننا نلمس كل يوم أفعالا عدائية وعنصرية مثل تلك المنشورات المعادية للإسلام والجزائر التي نشرها حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، والتي انقلبت بعده أحياء ''مارسيليا''... عادت سارة التي كان يصعب إسكاتها أو حتى استوقافها والتي بدت جد غاضبة وقالت هل تصدقين أن العديد منا يحرم من فرصة العمل فقط لأننا عرب جزائريون، ولأنها لمست استغرابي قالت ''إي وي'' يرى العديد منا الوظائف معروضة في مواقع الأنترنت وحين نتصل يكون أول سؤال يطرح على الذين يجيدون الفرنسية منا وهم أصحاب الحظوظ الأوفر لصعوبة تمييزهم ''ما اسمك'' لمعرفة إن كنت عربيا، وبمجرد أن يجيب المتصل يكون صاحب العمل قد وجد العذر فيخبرك أنهم قد وجدوا موظفا أو أنهم سيعاودون الاتصال أو غيرها من الأعذار الواهية التي يعلم جميعنا أنها ليست حقيقية... أما عن السكن فتقول سارة ''كلنا نعرف مسبقا أين يمكننا الحصول على السكن فهنالك أحياء في فرنسا محرمة علينا وهنالك أحياء مخصصة لنا كحي ''فيل نوف''، لا زلنا إلى حد اليوم وبعد مرور أجيال على قدوم أجدادنا إلى ما يسمى ''بلد الديمقراطيات؟!'' إلا أننا لا نملك حتى الحق في اختيار مكان إقامتنا''. فرنسيون يقرون بتهميش الفرانكو جزائريين حتى بعض الفرنسيين في بلد الفن والجمال الذي شوه سياسيوه وجهه الجميل يدينون تلك المعاملة التي يقولون إنها تحدث شروخا وانقساما في فرنسا الجمهورية، الكثير من المعارضين وعلى رأسهم الأحزاب اليسارية المدافعة عن حقوق الأقليات والداعية إلى المساواة بين الفرنسيين تكلمت عن فكرة احتجاز الأجانب، وخاصة العرب منهم بطبيعة الحال، في أحياء خاصة مما يمنع الإختلاط بينهم وبين الفرنسيين، الأمر الذي فسره الكثير من الحقوقيين بالتهميش ومعاملة هؤلاء على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وهو الأمر الذي يقول هؤلاء السياسيون عنه أن عواقبه ترجع على فرنسا في حد ذاتها التي لا تزال إلى اليوم تناقش مواضيع الهوية الوطنية والفرنسيين الأصليين من غيرهم، إلا أن جميع الفرانكو جزائريين الذين تحدثت إليهم خلال كتابتي لهذه الكلمات أقروا شيئا غاية في الأهمية كان نقطة مشتركة بينهم جميعا وهو أن الجالية المغاربية في فرنسا تفتقر إلى ممثلين مثقفين منها يتكلمون بالنيابة عنها ويدافعون عن حقوقها، الجميع تكلم عن سوء التنظيم وكانوا كلهم رافضين لفكرة انتظار السياسيين الفرنسيين للمطالبة بحقوقهم وإن كانوا في حقيقة الأمر لا يعتبرونهم إلا ورقة رابحة يراهنون عليها أيام الإنتخابات.