إذا انتهى العام عمد أصحاب الشركات التجارية إلى مراجعة دفاتر حساباتهم ويتدارسون مداخيل العام، محاولين اكتشاف الخلل في بعض الصفقات الخاسرة، كما يقومون بوضع خطط مستقبلية لتفادي تكرار هذه الخسائر، وكذلك تفعل ذلك كل الدول اليوم كبيرها وصغيرها، من أجل مراجعة وتسوية ميزانياتها بخصوص مديونيتها وغيرها، ولكن تخلو هذه الحسابات من أي معيار ديني أو أخروي يحاسب المرء فيه نفسه عن الطريقة التي اكتسب بها أو عن تجاوزاته التي ارتكبها ومنكراتها التي اقترفها. فما بال كثير منا تمر به سنوات العمر سنة تلو الأخرى دون أن يفكر أو يراجع فيها حساباته، وإن فكر وأحصى اقتصر همّه فيما كسب من حطام الدنيا وما خسر، ولم يلتفت إلى الحساب الحقيقي الذي سينتهي به إلى النار أو يفوز بالجنة، فقد قال عمر بن الخطاب: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية". ومن الناس من تمرّ به ساعات أول يوم من العام الجديد دون أن يحرك ساكنا، بل ويتهرّب من حساب النفس، فهل تجمّد الإحساس ومات القلب فلم يعد للرقيب مكان ولا لجرس الضمير صوت حتى يوقظ لديهم بعض الشعور بالتقصير فيستيقظوا من غفلتهم، ليجلسوا مع ضمائرهم جلسة رحمة، يرحمون بها أنفسهم؛ فنفس المرء أولى أن يرحمها إذا تعلق الأمر بالآخرة، فقد قال تعالى: "قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة" فأمر العبد أن يبدأ بنفسه ثم الأقرب إليه. وأسوأ ما يمكن الحديث عنه، أولئك الذين يستغلون الساعات الأولى من العام الجديد في الإحتفالات، بالعام الجديد، فيكون بداية السنة بالمنكرات والمعاصي بدل محاسبة النفس عن المنكرات السالفة عسى أن يتوب منها، وليس فيما يحتفلون به، عمل صالح يقابلون به وجه ربهم، بل إنه في غفلة وجهل من أضاع وقته بإقامة الأفراح والليالي الملاح كما في عهد الجاهلية، ولا شك أن هؤلاء سيبكون دما عوضا عن الدموع، يوم لا ينفع الندم كما أخبر بذلك الله عز وجل. ونقترب مع نهاية كل سنة من الآخرة، وإن فاتنا عام فبين يدينا عام جديد فلا ينبغي أن نضيعه، لأن هذه السنة قد تكون آخر سنة في حياتنا، فإن وقفنا فيها متأملين نادمين على ما فرطنا في جنب الله، لا شك أن الله سيرحم عبدا وقف على بابه لاجئا إليه، وقد أدخل الجنة رجلا قتل 100 نفس ثم تاب ولم يسجد لله سجدة واحدة بعد، وإن كانت التوبة صادقة فإننا من الفائزين إن شاء الله، فلنجعل آخر أيامنا مع الذنوب والمعاصي يوم قراءة هذه المقالة، فما يدريك فقد يكون هذا آخر عام في عمرك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعذر الله إلى امرئ آخر أجله حتى بلغ ستين عاما"، وأعذر الرجل بمعنى أنه بلغ الغاية في العذر، فلن يكون للمرء عذر آخر بعد هذه المدة من حياته ثم يأتي يوم القيامة ليقول ربي ارجعون، خاصة وأن الله شهد أن هؤلاء لو ردوا إلى الدنيا لعملوا مثلما كانوا يعملون من قبل، فهل يرضى المرء لنفسه أن يكون من هؤلاء والفرصة أمامه ليتوب ويستغفر عما بدر منه ويتوب إلى الله عز وجل. وقال العلماء في شرح هذا الحديث أن الله بإمهاله عبده 60 عاما، فهو لم يترك له عذرا يحتج به في عدم استغلاله لعمره في عبادة الله وطاعته، وبمرور السنين يكون الله قد أهدى إلينا عاما جديدا فيه ما يزيد عن الخمسين جمعة في كل واحدة ساعة استجابة، وفيه رمضان وليلة القدر خير من ألف شهر، وعاشوراء وعشر ذي الحجة إلى غير ذلك من سائر الأيام التي يمكن أن نملأها بذكر الله، ولا شك أن من عمل فيها خيرا سيكون له من الأجر ما يرجح ميزانه يوم القيامة.