ها هو شهر رمضان قد جاوز النصف، فقد انفرط عقده ومضت أيام منه، وانقضت لياليه، وهكذا تكون الأيام المباركة والليالي الجميلة، سرعان ما تذهب، لكن القلوب لا تزال ترى في العشر الأواخر مسكناً تؤدى إليه، وزمناً تحاسب فيها نفسها، وتصطلح مع ربها، وتدرك ما فاتها. فإلى أصحاب القلوب السليمة والفطر المستقيمة، لا يزال في شهر رمضان فرصة للطاعة، ومناسبة للعفو والمغفرة، ووقتاً غالياً للاجتهاد في العبادة، والتماساً لليلة القدر، وجمعاً للقلب على الله تعالى، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في حديث عائشة: (كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله)، ومعنى الحديث: أن رسول الله كان في العشر الأواخر من رمضان يشد المئزر (ما يلبس من الثياب أسفل البدن)، ويدل هذا على اعتزال النساء والبعد عن الاستمتاع بهن في هذا الوقت، ويحتمل أن يريد به الجد في العبادة والتشمير في الطاعة، ويُحتمل المعنيان معاً أي الاعتزال للنساء والتشمير في العبادة. وأحيا ليله بالسهر وعدم النوم في ليالي العشر الأواخر، فهو في سياحة ربانية وفيوضات إلهية حيث يخلو الحبيب بحبيبه، يدعوه ويناجيه، يذكره ويناديه، يقبل عليه ويعرض عما سواه. وأيقظ أهله للصلاة، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يترك أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه، وهذا من حرصه صلى الله عليه وسلم، فالاجتهاد في آخر رمضان تدارك لما فات، واغتنام لما هو آت، لقرب خروج وقت العبادة، وانتهاء شهر القرآن، فكان الاجتهاد مطلوباً، وإيقاظ الأهل مرغوباً، لأن الأعمال بالخواتيم نسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاه فيه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده، وفيما يلي بيان لتلك السنة المباركة.