يتساءل مراقبو الشأن المالي في الجزائر، عن مستقبل المنظومة البنكية بعد 13 سنة عن الشروع في إصلاح القطاع لا يزال بعيدا عن المقاييس العالمية، ويبدي خبراء تشاؤما بشأن أفق البنوك غداة رحيل أكثر من ألف كادر، وبقاء سندان توظيف احتياطي الصرف، بجانب سحب الاعتماد من عشرة بنوك خاصة. ويفتح ما يحدث للبنوك العمومية الباب واسعا لنقاش متجدد حول أفق ورهانات المنظومة البنكية في الجزائر، ومدى انسجام الساحة المالية الوطنية مع قواعد الأمن المالي وانتصارها لموجبات ترشيد احتياطي الصرف الهائل الذي تتمتع به الخزينة العمومية حاليا، بعدما برز اتجاه أنّ ثمة تغيير يتجه لصالح انفتاح أكبر يشرّع الأبواب أمام البنوك الأجنبية في مرحلة التحرير التدريجية المرتقبة بنهايةالعشرية المقبلة العام 2020. معضلة الأموال غير الموظفة وهروب الكوادر يشدّد متخصصون على أنّ الودائع البنكية غير المستغلة وغير الموظفة في تزايد؛ حيث أنّ أحد عشر بنكا ومؤسسة مالية جزائرية، تعاني من معضلة الأموال المودعة لديها وغير موظفة في الدائرة الاقتصادية، وهي بحسبهم في تزايد مستمر، حيث فاقت 1400 مليار دينار منتصف العام الحالي، وتثير المسألة إشكالات عديدة كان لها تأثيرها على منظومة الاستثمار وحركية الأموال في الجزائر. وأورث امتناع البنوك في وقت ما عن أي تمويلات ومنح القروض، إلى تراكم الأموال لديها دونما توظيف، وهو ما جعل خبراء يدعون إلى اتخاذ تدابير عاجلة تكفل مرونة أكبر للتمويلات البنكية، وتسهيل حركة رؤوس الأموال بين البنوك والمؤسسات، خاصة وأن السوق في مرحلة الهيكلة، وأن نسيج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يعاني من الهشاشة. كما تسبّب التشريع الذي كان معمولا به في عدم تفعيل رساميل البنوك في النشاط الاقتصادي، إذ تمنع المادة 104 من قانون القرض والنقد هناك، أي بنك له نسبة 1 بالمائة في رأسمال مؤسسة ما من منح الأخيرة قروضا، ما حال بحسب خبراء من تناغم بين المتعاملين الاقتصاديين والمصارف، بسبب مبالغة السلطات في إجراءات الحذر المعتمدة. ويبدي مراقبون في الجزائر انزعاجا من كون البنوك تحولت إلى هاجس أول للمستثمرين وكذا المصدرين، حيث يعدّد كثير من هؤلاء انزعاجا من عراقيل تتسبب بها إدارات المصارف، وتشددها في مجال معدلات الفائدة خاصة إذا ما ارتبطت بعمليات تصدير، وهو ما حدا بأطراف للتساؤل عن مؤدى هذه الإجراءات، في وقت تتغنى السلطات هناك بتشجيع الصادرات خارج المحروقات التي لا تتجاوز المليار دولار سنويا. بالتزامن، تشتكي البنوك العمومية من نزيف حاد بسبب افتقادها لخدمات ألف من كوادرها غادروها خلال 36 شهرا، بعدما منحت بنوك أجنبية وأخرى خاصة فرصا أكبر لهؤلاء من حيث الرواتب والمحفزات المهنية. زلزال البنوك الخاصة تعود البنوك الخاصة وكل ما أورثته من نقاط ظل، لتحتل الواجهة لا سيما مع تزامنها مع حملة الأيادي النظيفة، حيث تكشف التحقيقات التي أجرتها مختلف المصالح الأمنية والقضائية عن كارثة حقيقية جرى خلالها استنزاف الخزينة العمومية والفتك بأموال الشعب، وخلف كل هذا يطرح أكثر من سؤال بشأن إمبراطور بنك الخليفة رفيق عبد المؤمن. الذي كان مجرد صيدلي، وأحمد خروبي مدير البنك التجاري والصناعي الذي كان بائعا للحلوى! ولم تكن فضيحة بنك الخليفة والخسارة التي تكبدتها الخزينة العمومية ب1.7 مليار دولار، سوى مقدمة لتعرية حجم التجاوزات المسكوت عنها في هذا البلد، لاسيما في منظومة البنوك الخاصة التي تمخضت ولا تزال عن كثير من الأسرار- الفضائح، والفوضى التي تضرب قطاع البنوك، في وقت ظلت تتهاطل تقارير المفتشية العامة للمالية من دون طائل وسط تأخر الإصلاحات البنكية بنحو 6 سنوات مع تنامي رهيب لمعدلات الرشوة، وهو ما يفسر عزوف ومخاوف كبار المستثمرين العالميين وكذا العواصم الأوروبية التي ظلت تشدد على الجزائر لكي توقف التحويل غير الشرعي لرؤوس الأموال نحو الخارج مثل الصندوق الجزائري الكويتي الذي خلّف ثغرة ضخمة بواقع 30 مليار دولار، بعد حكاية اختلاس 220 مليار سنتيم من صندوق الاستثمارات الكويتي الجزائري المتأسس عام 1998، التي تورط فيها المدير العام الجزائري الجنسية للصندوق. وتجلّت أولى النقاط المعتّمة التي ظلت تعلو سماء البنوك، مع القبض على مدير الشركة الجزائرية للبنك “ع/د” وابنه اللذين أودعا السجن بسبب تورطهما حسب النيابة في تلاعبات واستغلال سيئ للثقة والنفوذ، في أعقاب تحريك 3 دعاوى قضائية بينها واحدة من طرف بنك الجزائر بسبب إخلالهما بقانون الصرف وحركة رؤوس الأموال، حيث اتضحّ أنّ دشمي وظّف على المقاس حكاية التوطين المصرفي لحساب شركة صينية للبناء باشرت عدّة مشاريع سكنية مع وكالة عدل بتيبازة والقليعة والدرارية، واستغل دشمي الحساب الخاص بهذه الشركة، مفرغا إياه من نحو 3.5 مليار سنتيم، وتسبب بذلك في احتباس مالي كبير. كما جرى اكتشاف محذور استيراد حليب “غلوريا” من طرف مؤسسة “ماقيفود” التي يمتلك فيها المدير المذكور ونجله العديد من الأسهم، حيث جرى تحرير صكوك بدفع ما يربو عن 180 ألف أورو لفائدة متعامل فرنسي، هذا الأخير أودع شكوى لدى محكمة بئر مراد رايس اشتكى فيها من عدم تلقيه أي سنتيم من قيمة التحويل، علما أنّه جرى حل وتصفية “ماقيفود” قبل دخول المتعامل إياه التراب الوطني بما محا أي أثر وخلق حالة فريدة من نوعها لا تزال حتى الآن محل تحقيق بالغرفة الخامسة على مستوى محكمة بئر مراد رايس. تأثير الأزمة المالية إذا كان تراجع دين الجزائر الداخلي هو أهم حدث ميز الفترة المنقضية، فإنّ الساحة البنكية لم تسلم من انعكاسات الأزمة المالية العالمية ذات المخاطر الكبيرة، ولعب ذلك دورا في تجميد مسار خصخصة بنك “القرض الشعبي”، حيث أضعف عدة بنوك كانت مستعدة للدخول في رقم أعمال الأخير، وهو إجراء مفاجئ خفف من حدته التراجع الملحوظ للديون العمومية الداخلية وتعزيز الموقع المالي الخارجي للبلد. وبحسب محللين في مجال الأسواق المالية الدولية فأن أزمة القروض الرهنية ستتواصل لأنه لا بد على البنوك من تدقيق حساباتها حتى تكون لها رؤية واضحة لمدى الخسائر التي لحقت بها و هي عملية تستغرق عدة شهور. وبحسب أرقام محمد لكصاسي مسؤول “بنك الجزائر المركزي”، فإنّ قيمة الموارد المالية المحصلة من قبل البنوك العمومية بلغت 2705,37 مليار دينار منها 93,5 بالمائة للقطاع العام، لكن قانون النقد والقرض الذي سمح بتحرير القطاع المصرفي، لم يسمح بتطور فعلي للبنوك الخاصة التي لم تمثل سوى 6,5 بالمائة من السوق مقابل 93,5 بالمائة لستة بنوك عمومية، وبعد سحب الاعتماد من خليفة البنك التجاري والصناعي، الشركة الجزائرية للبنك، مونا بنك، أركو بنك، جينرال ميديتيرانيان”، يونين بنك، ألجيريان أنترناشيونال بنك، إضافة إلى الريان بنك، فذاك معناه أنّ كل البنوك الخاصة ذات الرأسمال الجزائري تم تصفيتها، وصارت الساحة المصرفية الجزائرية مقتصرة على 17 بنكا منها سبعة بنوك عمومية وخمس مؤسسات مالية فحسب. نقاط ظلّ يرى محللون، أنّ ما أفرزه كل من بنك الخليفة ثم البنك التجاري والصناعي الجزائري، أثر سلبا على القطاع الخاص البنكي الذي لم يعرف تطورا نوعيا خلال العشرية الماضية، إلى درجة أن أغلب البنوك الخاصة ذات الرأسمال الجزائري تعاني من عجز مالي على خلفية عدم التمكن من الوصول إلى السوق النقدي وسحب العديد من المدخرين والمستثمرين لأموالهم، علما أنّ أغلب البنوك الخاصة المعتمدة متخصصة أساسا سواء كبنك أعمال أو بنوك عامة في عمليات محددة، حيث استفادت من تدابير تحرير التجارة الخارجية وبالتالي اعتمدت على التشريعات الجديدة للدخول بقوة في عمليات التحويل من خلال عمليات التوطين ومنح الاعتمادات المستندية والقروض الخاصة بالتعاملات التجارية. واعتمد مجلس القرض والنقد النظام المتعلق بأمن أنظمة الدفع، وأنهى إرساء التدابير التشريعية والتنظيمية التي تضمن السير الحسن لنظام الدفع الشامل، حيث تتضمن الآليات الجديدة تأمين نظام الدفع الشامل وتأمين العمليات المصرفية، قرّرت الحكومة إلغاء التعليمة الصادرة بتاريخ 18 أوت 2004. والمتعلقة بإجبار المؤسسات العمومية توجيه أموالها وإيداعها في البنوك العمومية، وهي خطة بررتها وزارة المالية بحتمية منح فرص متساوية لكل البنوك سواء الخاصة والأجنبية منها أو العمومية، ويرتقب أن تصل نسبة البنوك الخاصة بسرعة إلى حدود 30 بالمائة خاصة بعد توسيع البنوك الخاصة لشبكاتها وخدماتها. بيد إنّ مكتب الخبرة والدراسات الدولي “أرنست أند يونغ” أوضح في تقريره الأخير إنّ البنوك الجزائرية لا تزال بعيدة عن المقاييس العالمية، وأورد إنّ الجزائر تظلّ غير مهيّأة في الوقت الحالي لاعتماد المقاييس المطبّقة في مجال مخاطر الائتمان والقروض والرقابة الداخلية، حتى وإن كانت مجبرَة على التوجه إليها لاحقا. وقال ناطق باسم الشركة المالية الدولية، إنّ الهيئة صاحبت القرض الشعبي الجزائري، في مجال النظام الإعلامي المصرفي وعصرنة أدوات التحليل الخاصة بطلبات القروض وتوسيع دائرتها، وكذا تفعيل عمليات تحصيل القروض والتنقيط والتقييم؛ مشيرا إلى انتهاء المرحلة الأولى، قبيل اعتماد برنامج مماثل مع مصرف خاص “أي بي سي” لتطوير قروض الإيجار، في الشق الخاص بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الجزائرية، وحددت الهيئة الدولية ومكتب الدراسات أهم الثغرات والنقائص المرتبطة بسيرورة المصارف الجزائرية عموما، سيما العمومية التي تمثل أكثر من 90 بالمائة من القروض. ومن بين أهم الملاحظات التي قدّمت بعد المعاينة والتحليل الشامل لنظام القروض المعمول به في الجزائر، وجود عديد النقائص والثغرات بينها مشكل المؤهلات والتخصص إلى جانب التأثير السيئ والسلبي لنظام الإعلام البنكي علي النشاط المصرفي، خاصة فيما يتعلق بالقروض والتحصيل، إضافة إلى المدة الزمنية الطويلة التي تستغرقها معالجة الملفات الخاصة بالقروض؛ والتي تستغرق زمنا طويلا في غالب الأحيان، كما لاحظت معاينة الهيئة الدولية ومكتب “أرنست أند يونغ” غياب نظام رصد وكشف مسبق للمخاطر المرتبطة بالقروض، ما فتح الباب لبروز العديد من المشاكل لم يتم الكشف عنها إلا بعد وقوعها. وعلى كل ما تقدّم، تبرز استفهامات بالجملة عن مصير أموال احتياطي الصرف، حيث يتساءل متابعون عن طبيعة السياسة المتبعة في تسيير أموال احتياطي الجزائر من العملة الصعبة، وكذا الإصلاحات الجارية على القطاع المصرفي والمالي، خصوصا في الجانب المتعلق بعلاقات البنوك بالمستثمرين، بعدما بلغت المؤشرات مستوى إيجابيا قياسيا تعدى مستوى المائة مليار دولار. ولمواجهة الوضع الحاصل، تفكّر السلطات بخطة تشتمل على إنشاء بنك أعمال وخفض الجباية إلى 30 بالمائة على الشركات الخاصة، ناهيك عن تحضير مجموعة خطط لإنشاء سوق للرساميل في الجزائر. دفع الاستثمارات مشروط بمراجعة التشريع الحالي يوجّه خبراء انتقادات لاذعة للنظام البنكي الجزائري، ويعتبرونه عائقا رئيسيا لتطوير الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الجزائر خلال الأيام الأخيرة، وألّح هؤلاء على “انعدام فعالية” النظام البنكي الوطني، وضرورة مراجعته ليصبح أساس الاستثمار الوطني والأجنبي. وذكر عبد الوهاب رزيق، أنّ صندوق النقد الدولي وبسبب العائق المصرفي، أشار في تقرير له أنّ الجزائر تعاني من مشاكل نوعية بشأن المؤسسات المالية ويتعلق الأمر خصوصا بقدرة جلب والحفاظ على تدفقات الاستثمار. كما أورد الخبير المالي عبد الرحمان مبتول، أنّ الشراكة مع بنوك أجنبية هامة “ستساعد بشكل كبير في تسوية مشكل البنوك الجزائرية”، مضيفا أنّه حتى وإن كانت السوق الجزائرية صعبة الاقتحام بالنسبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإنها تبقى من الأسواق “الواعدة”. واعترف وزير الصناعة وترقية الاستثمارات عبد الحميد تمار، بأنّ “تطبيق إصلاح النظام المصرفي لم يتم مع أنّ الدولة خصصت مبالغ معتبرة لذلك”. من جهته، دعا رئيس الشركة البلجيكية للاستثمار “فيليب ويلمس” إلى قيام نظام مصرفي متطور، لما سيوفر ذلك من معايير مشجعة للاستثمار الأجنبي المباشر، فيما رحب العديد من المتدخلين بتعديل النظام الجبائي الذي أصبح بحسبهم “مستقطبا” للاستثمار وإطاره القانوني الذي تم تعديله “بشكل حسن” من خلال القوانين المالية في السنوات الأخيرة. من جانبه، سجل الخبير أرسلان شيخاوي، أنّ أكبر مشكل يطرح بالنسبة للمستثمرين الأجانب في الجزائر، هو ضمان تحويل رأس المال والمداخيل بعد الاستثمار، ما يستدعي إنشاء صناديق استثمار، التي تتمثل مهمتها الأساسية في استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في بلد ما. وأوصى عبد القادر علاوة، الخبير في البنك الدولي، المؤسسات العمومية بإنشاء صندوق استثمار جزائري، كما شجع متدخلون آخرون استثمارات “الحقيبة” أي تلك المساهمات الصغيرة المنتظمة في رأسمال مؤسسة. واعتبر علي صادمي، رئيس لجنة مراقبة العمليات ببورصة الجزائر أنّ هذا النوع من الاستثمارات الأجنبية المباشرة تعد “أفضل مقاربة للخصخصة في قطاع السياحة”، من خلال اختيار شريك بمعدل 40 بالمائة في حين من المفروض أن تنشط 60 بالمائة المتبقية على مستوى السوق. ودعا صادمي منتدى رؤساء المؤسسات إلى عقد اجتماع لتحفيز المتعاملين الخواص على اقتحام سوق السندات والالتحاق بالشركات الثلاث الموجودة وهي سيفيتال للصناعات الغذائية، والشركة العربية للإيجار المالي (أراب ليزينغ كوربورايشن) وإيباد (للإعلام الآلي). وتسعى الجزائر إلى تجاوز العقبات المتصلة بمناخ الأعمال والاستثمار بعد الانتقادات التي وجهت لها من قبل البنك العالمي في تقريره الأخير الخاص بمناخ الأعمال، لذا طلبت وزارة المالية الجزائرية، دعما تقنيا ومصاحبة من قبل فرع البنك العالمي لتحديد كافة المشاكل التي يعاني منها السوق الجزائرية، وحصر كافة المصاعب التي تواجهها في مجال جلب الاستثمارات، وتريد الدوائر الرسمية الجزائرية من خلال هذه الخطوة وضع آليات مرنة على المحكّ، تكفل تجاوز العقبات البيروقراطية وإعطاء دفعة حقيقية لمؤسساتها ونسيجها الاقتصادي عبر حل إشكالات تحويل الأموال والعقار وغيرها. القرض المستندي: “القشة” التي قصمت ظهر الاستثمار يرى متخصصو ومتعاملو الاقتصاد في الجزائر، أنّ توليفة “القرض المستندي” المعمول بها كآلية إجبارية تحكم عمليات التجارة الخارجية، سلبية على طول الخط، ويستدل هؤلاء بكون هذا القرض المستندي تسبّب خلال أقل من سنتين في العصف في زوال أربعمائة مؤسسة خاصة وتكبيد الاقتصاد المحلي خسائر زادت عن الستمائة مليون دولار. بداعي كبح الواردات وحتمية الاندراج ضمن سياق اقتصاد كلي، وتعزيز التوازنات المالية الداخلية والخارجية، اعتمدت الجزائر القرض المستندي منذ 2009، وهو قرض ائتماني مصحوب بعقد دولي، يفرض على عموم المستوردين وكذا المجموعات الاقتصادية تسديد القيمة الكاملة لوارداتهم بشكل فوري وضمن حساب بنكي رسمي وفق شروط حدّدها بنك الجزائر المركزي. وإذا كانت الحكومة بررت خيارها بضرورة حماية الاقتصاد الوطني ودعم المستوردين الذين يقدمون قيمة مضافة، فضلا عن منح الأولوية لمتعاملي المؤسسات المصغّرة والمتوسطة، إلاّ أنّ غالبية المستثمرين انتقدوا الإجراء وبشدة، مرجعين أزمات الغذاء والدواء وأعطال الإنتاج إلى التعقيدات البيروقراطية لهذا القرض المثير للجدل. وعن صحة تأثير القرض المستندي على الاستثمارات في الجزائر، يشدّد الدكتور “بشير مصيطفى” على أنّ القرض المستندي أفرز عديد الانعكاسات السلبية على حركية الاستثمار الداخلي، مسجلا تصفية 400 مؤسسة خاصة خلال ثمانية عشر شهرا، وضياع أزيد من نصف مليار دولار، دون أن يساعد ذلك على ترقية منظومة الإنتاج في الجزائر. بدوره، يعزو نبيل ملاّح، رئيس اتحاد متعاملي الصيدلة، ظاهرة الندرة التي تطال مائة صنفا دوائيا في الجزائر إلى القرض المستندي وما يترتب عنه في كل مرة من احتباسات، ويشير ملاّح إلى أنّ القرض ذاته حجّم مخطط إنتاج الأدوية محليا، بفعل التعقيدات الكثيرة التي يعانيها متعاملو الصناعة الصيدلانية. ويشير ملاّح إلى أنّ حجم ما خسره منتجو الدواء بفعل القرض المستندي يصل إلى سبعمائة ملايين دولار، ولا يفهم متعاملو هذا الفرع الحيوي سبب عدم استجابة الجهاز التنفيذي إلى طلباتهم المتكررة بإلغاء القرض المستندي نهائيا. وفيما يرى عبد الرحمان بن خالفة، المفوض العام لجمعية البنوك والمؤسسات المالية، أنّ القرض المستندي ايجابي من حيث إسهامه في مراقبة التعاملات النقدية في الشق المرتبط بالتجارة الخارجية، يذهب حبيب يوسفي، رئيس الكنفيدرالية العامة للمقاولين الجزائريين، إلى أنّ القروض المستندية ليست بالسهولة التي كانت عليها قروض أخرى، والتأقلم معها صعب ومرهق مثلما تضيّع الكثير من الوقت. وعليه، يلقي يوسفي بمسؤولية التراجعات والإخفاقات التي مُني بها قطاع غير قليل من المستثمرين خلال العامين الأخيرين، إلى قرار ربط الدوائر الرسمية باستبدال التحويل الحرّ بالائتمان المستندي في تسوية عمليات التجارة الخارجية، ويعتبر يوسفي أنّ النتيجة في النهاية هي محصلة للقرار الحكومي الانفرادي على حد وصفه، حيث لم يتم استشارة جمهور المتعاملين الاقتصاديين ورؤساء المؤسسات، هؤلاء باتوا لا يقوون على منافسة نظرائهم الأجانب بسبب القيمة الباهظة التي باتت تثقل كواهلهم. وكتصور بديل، يتصور “د/مصيطفى” بحتمية توخي مرونة أكبر وتقديم تسهيلات للمنتجين والمصدرين، لافتا إلى أهمية إيلاء الأولوية لإصلاح منظومة الجباية لخفض تكاليف الانتاج، حفز القطاعات المنتجة، تطوير منظومة التصدير، فضلا عن تشجيع المؤسسات المدرّة للثروة. ويبرز مصيطفى أنّ دفع الاستثمار الوطني لا يكون بالقرض المستندي وتوابعه، بل بوقف التساهل مع المنتوج الأجنبي في دخول السوق الوطنية دون حواجز ادارية أو أعباء جمركية، على نقيض منظومة الانتاج الوطني المقيّدة بمستوى التكاليف العالية والنوعية المنخفضة، مع أنّه يتعين رفع تنافسية المنتجات المصنّعة في الجزائر، وإلغاء جميع الحواجز المادية والمالية والفنية أمام المبادرة الخاصة والقطاع العمومي المنتج في وقت واحد. وأفاد عبد الرحمان بن خالفة، المفوض العام لجمعية البنوك والمؤسسات المالية، أنّ التسليم المستندي الذي أقرّه قانون المالية التكميلي 2011، إجراء متميّز ويستفيد منه كل من “ينتج ولا يبيع”، ويتعلق الأمر بتعاملات جميع المؤسسات التي تستورد معدّات لغرض التصنيع والتجهيز والإنتاج وليس لغرض البيع والتجارة المباشرة. وأوضح بن خالفة أنّ التسليم المستندي أصبح عمليا منذ الثلث الثاني لشهر أوت 2011، وجرى إرفاق القرار الصادر عن بنك الجزائر المركزي بثلاثة شروط أساسية لتنفيذ هذا الشرط المستندي، يقتضي الأول أن تكون المؤسسة المستفيدة ذات طابع إنتاجي، وأن يكون ما تستورده موجّه لغرض التصنيع فحسب، فضلا عن تقديم المتعامل المعني بالتزام خطي في هذا الشأن. ووصف بن خالفة “التسليم المستندي” بكونه أكثر ليونة وأقل كلفة، ويسهم في حفز جميع عرّابي الخطط الإنتاجية في الجزائر، كما لفت بن خالفة إلى أنّ قانون المالية التكميلي 2011، ذكر بوضوح أنّ القرض المستندي المثير للجدل لم يعد إجباريا للواردات التي ليس لها مآل للبيع ب