تعرف الجزائر زخما كبيرا للموروثات الحضارية والتقليدية والقيم الثقافية، التي تعبر في كل ولاية عبر ربوعها عن الموروث الخاص بتلك المنطقة كل واحدة على حدة، والتي مازالت مكتسبة ومخزنة وراسخة إلى يومنا هذا بفضل تظافر العديد من الشخصيات التي تسعى جاهدة لترسيخها والحفاظ عليها من الزوال والضياع، حيث أن عاصمة الاوراس الأشم التي حافظت على إحدى موروثاتها التقليدية التي نجدها في ثوب “القشابية”، حيث أنها تعد أحد أهم رموز الشهامة والفخر والرجولة. بعد أن كانت حكرا على كبار السن والمجاهدين إبان الثورة، أصبحت الآن من بين ألبسة “الموضة” التي يتنافس عليها شبابنا من حيث الألوان والنوعية، خاصة في هذا الفصل البارد الذي تجدهم فيه يستغنون عن بقية الألبسة الأخرى ويرتدون “القشابية” اتقاءا لموجات البرد القارسة. القشابية رمز من رموز أصالة الوطن يعتبر هذا اللباس الذي كان المفضل عند المجاهدين والثوار أثناء ثورة التحرير الخالدة، حيث أبى كبار الشخصيات ومسؤولي الدولة الاستغناء عنه كذلك بعد الاستقلال، وخير دليل المسؤول الأول عن الدولة السيد عبد العزيز بوتفليقة، يرتديها في عدة مناسبات دينية كانت أو وطنية، ولا يجدون أي حرج في لبسها، بل يعتبرونها العلامة المُمَيّزة التي ترمز إلى أصالتهم وانتمائهم العريق إلى هذا البلد الذي ناظل من أجل جلب العديد من المقومات التي أراد المستعمر أن يطمسها ويمحيها من أذهان الجزائريين، وفي ولاية باتنة نجد أن العديد من المسؤولين يرتدونها في خرجاتهم الرسمية، وعلى لسان عضو بالمجلس الشعبي الوطني السيد ناصير لطرش، الذي وجدناه يرتديها خلال زيارة رسمية، حيث كشف لنا أنه يحب ارتداء هذا الثوب الذي يعبّر عن أصالة المنطقة، ودليل جريء على شهادة وتقدير لكل من ارتدوا هذا الثوب خلال الثورة لجلب الاستقلال والحرية لهذا الوطن الذي ينعم الآن بالاستقرار. القشابية تحافظ على أصالتها وتختار لها مكانا مع “الموضة” ان القشابية تختلف في أصلها من منطقة إلى أخرى عبر الوطن، حيث توجد هناك القشابية المصنوعة من وبر الجمال التي تعتبر من بين أجود نوعيات القشابية، وعنها كشفت لنا الخالة “ص.ع” خبيرة في صنع هذا الثوب أن هذا المنتوج التقليدي الذي يمر بالعديد من المراحل إلى أن يصبح جاهزا، حيث يبدأ في مرحلته الأولى بعمليات مختلفة متتابعة، كما هي الحال أيضا بالنسبة للبرنوس الوبري، حيث توكل مهمة إعداد الوبر إلى المرأة أحيانا، أو الرجل بصفته المسؤول الأول عن اختيار المادة الأولية للقشابية، والتي تكون من الوبر الخالص والجيّد وغالبا ما يُشترى من ولايات عديدة تشتهر به كالجلفة وبوسعادة، ويكون من وبر “العقيقة” وبر المَخْلُولْ، وهو صغير الإبل في أول زَجَّة له بعد ميلاده الأول، ويعتبر وبر المخلول من أجود الأنواع، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي مرحلة النسج والحياكة ثم خياطاتها لتكون بعدها جاهزة للبيع، حيث أن أسعارها باهظة جدا نظرا لصعوبة المراحل التي تمر عليها، إذ أن سعرها يتراوح بين 2 مليون سنتيم إلى 5 ملايين سنتيم، في الوقت الذي توجد فيه العديد من أنواع أخرى لهذا الثوب الأصيل على غرار قشابية “الملف”، حيث تقول ذات محدثتنا إن القماش الأكثر استعمالا في منطقة الاوراس باتنة هو “الملف” ويمكن خياطته بواسطة الماكنة ولا تصنع يدويا بأكملها، ليلبس هذا النوع بشكل يومي يتراوح سعرها بين 2000 إلى 5000 دج، وتبقى القشابية المصنوعة من الصوف في الأخير هي الأكثر طلبا في المنطقة، بحجة توفر المادة الأولية وتتنوع ألوانها بين الأسود والأبيض والبني، وذلك حسب نوع الصوف، ويصل سعرها إلى حد 10 ألاف دج. أما عن خياطة “القشابية” فقد كشفت لنا الجدة “رشيدة” تقطن ببلدية أريس في باتنة، أنه لا توجد ورشات لخياطة القشابية، لكن تمارس المهنة في المنازل عند عائلات معروفة على مستوى ربوع الولاية باتنة على خلفية أنها أحد ممارسي حرفة خياطة “القشابية”، وفي هذا الشأن قالت محدثتنا إن عائلات توارثت مهنة خياطة القشابية أبا عن جد، فكل من يريد خياطة “قشابية” أو برنوس ما عليه سوى التوجه إلى منزل أحد الخياطين المعروفين في قريته، حيث يمارس هذه الحرفة كبار السن أو شباب لم يتجاوزوا سن الأربعين من عمرهم توارثوا الحرفة عن آبائهم. الشاب محمد، الذذي يقطن بعاصمة الولاية، فكشف لنا في هذا الصدد أنه بعض الجمعيات التقليدية خاصة في الجهة الشمالية بالولاية، تخصص لتعليم هذا النوع من الموروثات الثقافية والتراثية التي أبى العديد من كبارنا أن يسمحوا فيها، لأنها صنعة تقليدية تكون بتقنيات يدوية خاصة في مراحلها الأولى، مضيفا لنا ان هاته البذلة التقليدية يشارك بها العديد من العارضين حتى في الخارج أو في داخل الوطن، في مختلف الصالونات وتنال دائما اهتمام وإعجاب الزوار خاصة منهم الأجانب الذين يقتنونها. ألبسة صوفية تنافس القشابية وتهددها بالزوال لعل أن هذا اللباس المعروف بمنطقة الاوراس، وكذا العديد من مناطق ربوع الوطن فبعد أن كانت أمهاتنا وكبار السن من يصنعونه ويتفننون فيه، أتت التكنولوجيا و«الموضة” التي أصبحت تهدد كيانه وعلى رغم التطور الحاصل في عالم الألبسة والموضة، إلا أن القشابية بكل أصنافها التي تنسجها أنامل ماهرة ما تزال تمثل أرقى الألبسة التي تعبّر عن الأصالة والتمسك بالتراث، وأنفعها في فصل الشتاء. إذ أنها دافئة ولا تمتص ماء المطر وتعتبر الدرع الواقي من البرد، حيث تبقى جافة لانزلاق قطرات المطر عليها، وخلال جولتنااكتشفناأن هذا اللباس شهد في الآونة الأخيرة عودة للإقبال عليه بكل الأطياف، وتحديدا فئة الشباب، الذين لم يجدوا في معاطف الكاشمير والجلد والصوف غايتهم التي تمنع عنهم البرد في الأيام القارسة، خلافا للقشابية التي توفر الدفء أمام شدة البرد، وهو ما أكده لنا”نبيل فروجي” صاحب محل تجاري، الذي أكد أن السلع المعروضة لم تستطع مجابهة “القشابية” لأن الناس أدركت قيمتها ودورها في مقاومة البرد القارس، لذلك لم تستطع السلع المعروضة مجابهتها. صنع وبيع القشابية مهنة للشباب في باتنة أدى الطلب الواسع على هذا المنتوج التقليدي بالكثير من الشباب والشابات بولاية باتنة، إلى تكوين جمعيات تقليدية تحافظ على هذا الموروث التقليدي خاصة لباس “القشابية” وترويجه، وجعلها الحرفة التي يفرغون فيها طاقاتهم، حيث أن المنتوج يلقى رواجا واسعامن خلال الطلب المتزايد من الشباب خاصة، وتعرض “القشّابية” في محلات البيع والمعارض والصالونات المحلية والوطنية بأشكال متنوعة ولكافة الأصناف، هذا في الوقت الذي تخصص فيه بعض المحلات لبيع هذا المنتوج وحده على خلفية توفير الحجم واللون بأسعار متباينة. الحركة الجمعوية بباتنة تنادي بالحفاظ على الموروث التقليدي كشفت السيدة “سامية غضبان” رئيسة جمعية ترقية الشباب بولاية باتنة، أنها ومن خلال عملها الدائم بالجمعية التي تهتم بشؤون الشباب، تعمل دائما على خلق حلقة وصل بين الأجيال القديمة والجيل الجديد، بربط كل الأمور خاصة منها التقليدية التي كان يمارسها آباؤنا وأجدادنا، وحث الشباب على التفاني فيها مع إمكانية توفير كل الإمكانات المادية والمعنوية للشباب قصد الحفاظ على كل ما هو نابع من تراثنا الحضري، من خلال إقامة معارض وأيام دراسية لفائدة هذا الأخير.