أخيراً صدر القرار التاريخي بقبول عضوية فلسطين كاملة كدولة في منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم، المعروفة باسم »اليونسكو«. أهمية القرار تأتي من بعده الحقوقي الإنساني وليس في شقه السياسي فحسب. وعلى إثر ذلك أعلنت الولاياتالمتحدة قطعها للدعم المالي الذي تقدمه ل»اليونسكو» استنادا، كما قيل، إلى قانون صادر من الكونغرس سنة 1990، يلزم الحكومة الأمريكية بقطع أي دعم مالي لأي هيئة تابعة للأمم المتحدة تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية كدولة وتمنحها عضوية كاملة. حصل القرار على أغلبية أصوات 107 دول، من ضمنها العديد من الدول الأوروبية كفرنسا وكذلك الصين والهند وغالبية دول أمريكا اللاتينية والإفريقية والآسيوية، بينما صوت ضد القرار 14 دولة فقط، من ضمنها بالطبع أمريكا وإسرائيل وكندا وأستراليا وألمانيا وهولندا، التي جاءت تصريحات وزير خارجيتها بعيدة عن المنطق والالتزامات الإنسانية والأخلاقية التي عادة ما تتشدق بها، كما امتنعت 52 دولة عن التصويت، من ضمنها بريطانيا واليابان. تساهم الولاياتالمتحدة بحوالي 80 مليون دولار سنوياً في ميزانية «اليونسكو»، وهي تمثل حوالي 22 في المئة من إجمالي ميزانيتها. وقد أوضحت الخارجية الأمريكية أنها كانت تعتزم تسديد 60 مليون دولار كجزء من التزاماتها في شهر نوفمبر الجاري، ولكنها لن تقوم بذلك الآن. وعلى أي حال، ليست هذه هي المرة الأولى التي تعاقب فيها أمريكا منظمة اليونسكو، حيث توقفت عن دعمها قرابة العشرين عاماً من 1984 حتى 2003 بحجة غريبة وهي عدم توافق أهداف «اليونسكو» مع منطلقات السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أنها عادت مرة أخرى لدعمها في 2003، وللغرابة في فترة ولاية جورج دبليو بوش الأولى. فكيف سيبرر الرئيس أوباما لنفسه إعاقته لعمل منظمة دولية طالما اعتبرها ذراعا لسياسته الخارجية القائمة على التعددية الثقافية في العالم. والحقيقة هي أن صفة «العضوية الكاملة» بالنسبة لفلسطين في «اليونسكو» لن تغير الكثير على أرض الواقع، حيث تشارك فلسطين كعضو مراقب منذ زمن طويل مع كل ما يعنيه ذلك من تواجد دبلوماسي وسياسي. ولكن إسرائيل تحديدا تخشى ما قد يؤدي إليه هذا القرار الرمزي من تأثير على منظمات أخرى، حيث ستسعى فلسطين نفس المسعى لعضوية منظمات كحماية الملكية الفكرية، والصحة العالمية، والدولية للطيران المدني، والدولية للطاقة النووية، والمنظمة الدولية للتنمية الصناعية، ومؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية الذي يقبل عضوية الدول الأعضاء في «اليونسكو»، فهل ستقطع الولاياتالمتحدة التمويل عن كل هذه المنظمات أيضاً، وهي تعرف جيداً أن قطع التمويل سيضعف تأثيرها السياسي داخل تلك المنظمات في زمن انحسار وأزمات اقتصادية طاحنة؟ وكيف ستبرر الولاياتالمتحدة لنفسها تأثير قطعها للتمويل المذكور عن «اليونسكو» على مشاريع تنموية وتعليمية كبرى في العديد من البلدان الفقيرة وأولها أفغانستان؟ لاشك أن «تراكم العضويات» الدولية سيعطي زخماً للمطالب المشروعة للشعب الفلسطيني بالاعتراف به كدولة كاملة، وسيدفعون لتقوية الزخم السياسي لطلب انضمام فلسطين كعضو دائم في الأممالمتحدة، وهو الطلب المقرر النظر فيه في 11 نوفمبر الجاري. ومع أن الولاياتالمتحدة كانت قد أعلنت أنها ستستخدم حق النقض الفيتو، فإن الطلب سيتم عرضه مرة أخرى في العام المقبل. بالطبع كان بإمكان الساسة الأمريكان، التعامل بمرونة أكثر، ولكنها «السوسة» التي اسمها إسرائيل وبدء موسم الانتخابات الرئاسية. ويبقى السؤال بهذا الخصوص مطروحاً بقوة، إن لم تتمكن الحكومة الأمريكية من التعامل مع شخص بمرونة وليونة أبو مازن، محمود عباس، الذي اختار الطريق السياسي الدبلوماسي لتحقيق مشروع الدولة الفلسطينية، فما هي مواصفات الفلسطيني الذين يريدون التعامل معه؟ وإلى متى سيظل طلب فلسطين بالعضوية مركوناً في الرف، وهو من أبسط الحقوق الجماعية للشعوب، ولا حاجة لنا للتذكير بأن حبر قرار عضوية دولة جنوب السودان لم يجف بعد، وهي العضوية التي كان لأمريكا فيها قصب السبق. القرار الأميركي ليس إلا حالة خارج التاريخ ولا تستوعب المستجدات، بل إنها ومجموعة من تلك الدول التي تزعم أنها داعمة لحق الشعوب في تقرير المصير، وتبريراتها الركيكة في تأثير قرار كهذا على مسار التفاوض، تقود العالم إلى مزيد من الاحتقان والعنف وعدم الاستقرار.