هبت عاصفة قوية على أرض شجرية، «فتخابطت» الأغصان ببعضها من هول العاصفة وتكسرت، مر رجل بهذه الأثناء وتساءل ما لهذه الأغصان تتمايل مع بعضها وتتكسر، سمعته إحدى الأشجار، وقالت: ألا ترى قوة العاصفة وشدتها، فالأغصان من قوتها لا تقدر على الوقوف في وجهها، لكن المهم أنها لن تستطيع أن تمس جذورنا فهي راسخة ثابتة، لذا فهي قادرة على إنتاج عشرات الأغصان الجديدة. خطرت على بالي هذه الخاطرة عقب صلاة احد أيام الجمع عند وصولي ملتقى الطرف الغربي لسوق القطانين بطريق الواد بالمدينة القديمة للقدس، هذا السوق والمجمع التجاري والخدماتي المتكامل الذي بناه والي الشام المملوكي تنكز الناصري سنة 1336م في عهد السلطان الناصر محمد قلاوون، أحسست عندها بأن هذه البوابة الغربية للسوق المقبى بعقد برميلي جميل باسطة ذراعيها تدعو الجميع لدخول السوق المؤدي بطرفه الشرقي لبوابة مزخرفة تفضي إلى ساحات المسجد الأقصى المبارك، وهو الطابع الحضاري الإسلامي الذي اتسمت به المدن العربية الإسلامية. وقفت على بوابة السوق الغربية تغمرني عاطفة جياشة لقدسية المكان أتلفت الى طريق الواد، أرقب عن كثب حركة المارة من القاطنين والمصلين والزوار وهم يتمشون فيه ذهاباً وإياباً شمالاً وجنوباً، ومن هم يقفون للتسوق من الحوانيت والدكاكين وبائعي البسطات المنتشرة على الطريق، فارتسمت في ذهني على عجل شبكة الأحياء والحارات والشوارع والأزقة التي ترتبط بهذا الطريق، وضخامة ومهابة المباني والمواقع والآثار التي تزدخر فيها وتزينها، فترى فيها جمال الطراز المعماري والعمراني الإسلامي وعبق الحضارات وعراقة التاريخ، وهي تحيط بالمسجد الأقصى إحاطة السوار بالمعصم، بمثابة أجساد تحتضنه لتحرسه، وأيادي تتشابك لتحميه، ودروع واقية تحافظ عليه من جهة، وتعزز هوية المدينة القديمة العربية وشخصيتها من جهة أخرى. أحسست وأنا أسرع الخطى نحو الشمال باتجاه باب العمود بالحميمية والدفء مع هذه المباني العتيقة والمواقع الأثرية على جانبي الطريق «التي تستمد أصولها وقوتها من قدسية المكان وبركته»، فكل مبنى وموقع، بل وكل حجر فيه يحمل قصة لها دلالاتها الحضارية والتاريخية والتراثية والعمرانية، وبالرغم من قدمها وتآكل بعضها إلا أنها تشعرك بعظمتها وبوقارها والافتخار بشموخها وهيبتها، فتزيد من ثقة الإنسان بنفسه وبتاريخه وبماضيه وحاضره، فهذه المباني والمواقع التي يحتضنها السور التاريخي للبلدة القديمة، تشكل تطورا وتفاعلات تراكمية معمارية أفقية وعمودية وأنماط بناء لحضارات في حقب تاريخية متتابعة مختلفة تقلبت على المدينة وتنوعت خلالها العناصر الثقافية والتراثية التي شكلت النسيج العمراني والمظهر الحالي للمدينة ولمخزونها التراثي، فزاد ذلك من مكانتها وأهميتها، وصقل طابعها ومعالمها وهويتها التي تحظى باحترام وتقدير الجميع، وتترك في النفس القداسة والتبجيل والطمأنينة والسلام. لذا فهي حقاً مدينة القداسة والتوحيد والإيمان، ومدينة الطهر، والأرض المباركة شرَّفت أرضها اقدام الأنبياء، وأقام فيها الصديقون والصالحون، مدينة تعددت أسماؤها، كيف لا! وهي التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ منذ أن بناها العرب اليبوسيون 3000 سنة ق.م، لذا سميت المدينة بعشرات الأسماء، فكان اسم يبوس هو أول اسم لها، ومع توالي العصور تبدل إسمها، فعرفت بالعديد من الأسماء التي تحمل جميعها دلالات دينية أو أسماء لمن بنوها أو غزوها من بينها: اورسالم، أورشليم، ايلياء، بيت المقدس، القدس. والقدس من القداسة والقدوس تعني الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص، ولفرط حبهم وعشقهم لها أطلقوا عليها عدة أسماء، مدينة المدائن وزهرتها، وجوهرة فلسطين، مفتاح الحرب والإسلام. وهي متحف حي متنوع داخل سور يحميه، عَمَّرَةُ وأكمل بناؤه على الصورة التي نراه فيها الآن السلطان العثماني سليمان القانوني للفترة من (1536 /1540م) أحاط بالمدينة التي تعرف اليوم بالمدينة القديمة «بطول 4053م» متحف ساهمت في صناعة موجوداته حضارات متعددة تفاوت تأثيرها من حضارة إلى أخرى، وحفظ لها مساجدها وكنائسها وأديرتها وأماكنها المقدسة، ومبانيها ومواقعها التاريخية والتراثية، وأبقى على معالمها وأحيائها وحاراتها وأسواقها وشوارعها وأزقتها وقناطرها وأروقتها وقبابها وأقواسها، وكذلك عن سبلها وزواياها وتكاياها وخاناتها ومصاطبها. مدينة تبدو كلوحة من الفسيفساء جميلة تسر الناظرين، بأشكالها وتشكيلاتها الهندسية البديعة، تزدان وتتألق كأنها لوحة فنية مزخرفة فكل ما فيها روعة وجميل، لوحة تمجد أنماط العمارة وطرز المباني والمواقع والصروح المعمارية، فهي وثيقة تاريخية حية بأشكالها ومظهرها، نمت واتسعت وتطورت تدريجياً في علاقتها ببعضها وتداخلها وتوزيعاتها مع حيزها، على مدى عصور متتالية وعدة قرون طويلة وحضارات متعاقبة تركت بصماتها ولمسات حضارتها وثقافتها التي شكلت مظهر مبانيها التاريخية، ومواقعها التراثية، وصروحها المعمارية، وأسواقها التجارية، وبقيت شاهداً على تاريخ المدينة إلى اليوم. فتشاهد فيها الفنون وتنوع الأشكال والتشكيلات والمشاهد الأصيلة للأبنية الرومانية والبيزنطية والأموية والصليبية والأيوبية والمملوكية والعثمانية، ويعتبر الطراز المملوكي الأكثر حظا من بين الأنماط المعمارية في الحي الإسلامي بالمدينة القديمة لكثرة المباني التي بناها المماليك فيها. وكما ارتبطت عمارة المدينة القديمة في القدس بالحضارات والأجيال التي تعاقبت وتوالت عليها، ارتبطت كذلك بالمجتمعات التي هاجرت وأقامت وعاشت فيها، مما اوجد هذا التراكم والتمازج الحضاري والتاريخي والعمراني والتداخل والمشاركة المتكاملة الفريدة في نوعها في حيز الإحياء والحارات وشوارع المدينة، خصوصاً مع الاكتظاظ العمراني فيها، فتشابكت في توسعاتها العمرانية الدينية والسكنية والتصقت المباني والمواقع ببعضها البعض، لدرجة لم يعد فيها متسعاً لإقامة أبنية جديدة داخل السور، الأمر الذي اوجد إندماجاً وتجانساً وجمالاً في النسيج المعماري للمدينة انعكس إندماجاً على نسيجها الاجتماعي الذي تفاعلت وتداخلت وانصهرت فيه مختلف الانتماءات والطوائف والأعراق والتركيبات الاجتماعية. فكان التواصل والتوافق والتسامح الديني قائماً بين مختلف أصحاب الديانات السماوية على أساس العدل وثقافة التسامح والتوازن الاجتماعي فيما بينهم، وعلى حرية العقيدة والفكر والرأي، والتسامي على المشاكل، واستقرار أحوالهم وشعورهم بالسلام والاستقرار والأمان الذي كان سائداً بينهم خصوصاً بعد العهدة العمرية سنة 636م. لذا فمعالم وطابع وملامح المدينة وهويتها وشخصيتها مرتبطة بمكوناتها المعمارية وتركيباتها الاجتماعية للمجتمعات التي أقامت بها، وبأهلها المرابطين الذين عاشوا ويعيشون فيها، فكان التعايش المشترك والوئام والتفاهم والاحترام المتبادل دائما أقوى من التقاطب والصراع والتحولات الحيزية أو الديموجرافية التي كانت تحدث بين حين وأخر في المكان والأحياء السكنية المتلاصقة بالمدينة، الذي أوجد قواسم مشتركة وصلات في الجوار والأعراف الثقافية والتقاليد، وعلاقات تفاهم ومجاملات وود بين الأسر على اختلاف انتماءاتهم التي يعيشون بها نظراً للتداخل والتشابك في الأماكن، فتعايشوا دائماً معاً بكل محبة وتقدير قلباً ومشاعر في الأحياء والحارات التي يقيمون بها، وتبادلوا الزيارات، وتشاركوا فيما بينهم في الأفراح والأتراح، واختلطوا في العمل وأماكن التعليم والمستشفيات والأسواق، وكانوا يلتقون معاً بالمناسبات والاحتفالات والأعياد. أحسست بهذا الإحساس، بل ازداد تَيَقْني منه وأنا أمر بالطريق من أمام المرحلة الثالثة لدرب الآلام وقرب مبنى الهوسبيس، حيث وقف عشرات السياح الأجانب المتتبعين للطريق التي خطاها السيد المسيح عليه السلام، وهي نفس الطريق التي يمر منه المسلمون القادمون للصلاة في المسجد الأقصى، والتي تئن للأسف حالياً تحت وطأة أقدام جند الاحتلال. إلا أن هذا الإحساس سرعان ما تبدل وتغير بعد عدة خطوات مشيتها في الطريق اتجاه الشمال عندما شاهدت علماً كبيراً للاحتلال يتدلى وآخر يرفرف على احد المباني القديمة بالطريق، عندها تفجرت المواجع بخطورة التوسع اليهودي الذي تتعرض له المدينة القديمة، وحملت همومي وأنا امشي متثاقلاً باتجاه باب العمود وهو أهم بوابات المدينة المستعملة بل أجمل أبوابها وأضخمها، وأنا أشاهد وأفكر في محاولات التغيير الاحتلالية الهائلة للتأثير في المدينة على كافة مناحيها «المدنية والسياسية والتاريخية والتغيرات العمرانية والتركيبية السكانية والحياة الاجتماعية»، وسعيه للاستيلاء على مباني المدينة وإخلاء وطرد سكانها الأصليين، والعمل على طمس معالم وهوية المدينة العربية والإسلامية واللجوء إلى إيجاد جذور مصطنعه لهم، عن طريق إستملاك عقارات، وبناء كنس وتحويل طرق، وحفر أنفاق، والحد من إعطاء رخص للبناء، وهدم العديد من المباني التي يؤدي هدمها إلى تهجير أهل المدينة الأصليين، وتبديد معالم تراثها الديني والحضاري والتاريخي والمعماري المتميز بتشكيلاته وأشكاله المتباينة، وإقامة أبنية عمودية للاماكن التي يتم هدمها لبناء عمارات وناطحات سكنية شاهقة بديلاً عنها ، لاستقدام يهود جدد للاستيطان فيها، مما اوجد نمطاً ومشهداً عمرانياً وسكانياً جديداً وغريباً على طبيعة المدينة شوه صورتها الحضارية وغير من طابعها الإسلامي العربي وهويتها الثقافية بقصد تهميش الأحياء الإسلامية والمسيحية «التي افتعل تسميتها الرحالة الغربيون منذ 1805م بادعاء تمركز بعض الأحياء حول مباني الأماكن المقدسة» لإضفاء الصفة اليهودية على المدينة المهددة بفقد جمالها وسحرها. خرجت من بوابة باب العمود، وجلست من شدة الإرهاق متكئاً على أحد مصاطب أدراجه وبينما أنا أضع ساقاً على ساق، وأغمض عينيَّ طلباً لبعض الراحة، قفزت بذاكرتي المؤامرات العديدة التي تخطط لهذه المدينة التي يتربص بها أعداؤها والطامعين للسيطرة والسيادة عليها منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، فتآمروا على تشريد وطرد من تبقى من أصحابها الأصليين المرابطين فيها كالجذور، وكم حاولت الصهيونية طمس وإخفاء وتزييف موروثاتهم الحضارية والمعمارية والاجتماعية، إلا أن المقدسين واجهوا كل هذه الممارسات وبقوا صامدين مرابطين مرفوعين الهامة منغرسين بأرضهم، فهم ليسوا كالغصون التي تتكسر أمام العواصف والأنواء، بل هم جذور حقيقية راسخة متجذرة ومتمددة في باطن الأرض كقمم الجبال الشامخة لا تهزها أو تحنيها الرياح أو العواصف.