ذكر المؤرّخ والمستشار العلمي لنشرة الوثائق الدبلوماسية السويسرية «مارك بيرنو» في مقال له، بمناسبة مرور خمسين عاما على مفاوضات إيفيان، أنها تُعدّ «الحدث الأكثر أهمية في الاتفاقات التي تم إبرامها على المستوى العالمي بمساعدة سويسرية»، كما يرى أنها شكّلت نقطة تحوّل في «ممارسة الحياد النشط، التي بادر بها وزير الخارجية السويسري آنذاك «ماكس بوتي بيار» بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن سويسرا بذلك رغبت في التعبير عن تضامنها مع باقي بلدان العالم ومحاولة وضع حد للصراعات المسلحة كلما أتيحت لها الفرصة». ولأول مرة كشف الرجل الذي كان همزة وصل في أول لقاء بين الطرف الجزائري والطرف الفرنسي، الصحفي السويسري «شارل هنري فافرو» عدة جوانب من هذه المعاهدة اليوم. وعن دوره في أول لقاء بين الطرف الفرنسي والجزائري يتذّكر شارل هنري فافرو في حديث خصّ به «سويس إنفو» قائلا: «كصحفيّ، زرت الجزائر لأول مرة في عام 1952، حيث اكتشفت المشكلة الجزائرية قبل عامين من بداية الثورة في 1 نوفمبر 1954». وفي الوقت نفسه، كان لبّ المشكلة التي عانى منها شارل هنري فافرو كصحفيٍّ عمل على تنظيم العديد من اللقاءات السرية بين الطرفين، أنه كان «يُضطر لعدم نشر الكثير من المعلومات التي يحصل عليها مخافة أن يؤدي ذلك إلى تأجيج الصراع، خصوصا بعد نشاطات الجماعات المتطرفة الفرنسية أو ما سُمي ب «منظمة العمل السري». كان أول لقاء بين الطرف الفرنسي وممثلي الثورة الجزائرية مبرمجا في روما بمناسبة تشييع جنازة البابا، والذي كان من المفروض أن يتقابل خلاله إيدمون ميشلي مع فرحات عباس»، لكن عدم اختيار ميشلي لتمثيل فرنسا في الجنازة حال دون ذلك». وكانت المحاولة الثانية مع أحمد فرانسيس، «الذي لم يكن من كبار مسؤولي الحكومة الجزائرية المؤقتة، ولكنه كان رجل الثقة بالنسبة لفرحات عباس، والذي كان مرفوقا ببن تهامي، الذي سجّل أكبر مكسب بانتزاع اعتراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر بجمعية الهلال الأحمر الجزائري في عام 1956، الأمر الذي يمثّل اعترافا دبلوماسيا بجيش التحرير الوطني»، لكن شارل هنري فافرو يعتبر أن بداية الاتصالات الجادة بدأت مع سعد دحلب، إذ أن الطرف الفرنسي لم يكن جادا في تلك الاتصالات، حيث يقول فافرو: «إن الوفد المفاوض الجزائري الممثل بعلي بومنجل ومحمد الصديق بن يحيى، الذي قبِل لأول مرة لقاء رسميا في مولان، وجد نفسه أمام نص مغاير عن موضوع اللقاء». ويشرح ذلك بالإشارة إلى أن «الجنرال ديغول الذي كان يستقبل ممثلي الولاية الرابعة، كان يعتقد برفقة مساعده بيرنار تريكو، أن سلام الشجعان الذي تحدّث عنه قريب، وبالتالي لا فائدة في التفاوض». وفي المقابل، ظهرت جدية الطرف الفرنسي حسب شارل هنري فافرو «مع بيار راسين مدير مكتب رئيس الوزراء ميشال دوبري، الذي كان يؤمن بأن المفاوضات ليست فقط ضرورية، والذي وقّع على أول وثيقة توضّح تقديم كل صلاحيات التفاوض لكلود شايي، الذي كان يدير القسم القانوني بالبعثة الفرنسية لدى الأممالمتحدة في نيويورك، والذي بإمكانه القدوم إلى جنيف بدون إثارة الانتباه». وفي هذا السياق، عمل شارل هنري فافرو على تنظيم لقاءين بين كلود شايي عن الجانب الفرنسي وسعد دحلب عن الجانب الجزائري، في فندق «إنجلترا»بجنيف، في بداية شهر فبراير 1961. ورغم كل شيء باءت المحاولة الأولى لتنظيم مفاوضات بين الطرف الجزائري والفرنسي بالفشل، نظرا لعاملين: - أولا: أن الجانب الجزائري اختلف حول الاستراتيجية التي يجب اتباعها، هل السرية التامة أم المفاوضات العلنية، وهنا يذكر شارل هنري فافرو أن «سعد دحلب كان يرغب في أن تظل المفاوضات سرية، بينما كان الطيب بولحروف يريد أن ترافَق بأكبر قدر من الترويج والإعلام». يضاف إلى ذلك، دائما حسب شارل هنري فافرو الذي كان يعارض إخراج المفاوضات من سريتها، أن «وزارة الخارجية السويسرية التي قبلت القيام بدور الوساطة ابتداءً من نهاية شهر فيفري 1961 في المفاوضات التقنية التمهيدية، ارتكبت خطأَ إصدار بيان تعلن فيه عن قبول وضع مساعيها الحميدة تحت تصرف الطرفين». ويرى شارل هنري فافرو أن «اغتيال رئيس بلدية إيفيان يبرهن على أن المطالبين بسرية المفاوضات، كانت هي النظرة الصحيحة»، يُضاف إلى ذلك أن حضور صحفي في كواليس تلك المفاوضات لم يكن ليروق للدبلوماسيين السويسريين، الذين أصبحت علاقتهم بشارل هنري فافرو متوترة. وكانت النتيجة، حسب فافرو، أن «مفاوضات إيفيان الأولى التي بدأت بصخب إعلامي، دُفنت بمجرد ولادتها، وأنه تمّ الشروع في محاولة إعادة ربط الاتصالات بشكل سري بين كلود شايي وسعد دحلب من جديد، ابتداء من بداية صيف عام 1961». وعلى صعيد آخر، يَعتبر شارل هنري فافرو الجولة الثانية من مفاوضات إيفيان التي بدأت في صيف 1961، تمّت على أسُس صحيحة؛ أي في سرية تامة، وأن الدبلوماسية السويسرية لعبت فيها دورا حيويا لكي تتوصل في 18 مارس 1962 إلى إبرام الاتفاق المعروف ب «اتفاقات إيفيان».