أحداث كثيرة وتداعيات مؤلمة، وأوضاع صعبة دفعت بالعديد من أبناء جلدتنا إلى هجر دارهم وديارهم والارتماء في أحضان اللجوء، أين تحاول الحياة بالنسبة لهؤلاء أن تجد طريقها بخطى متعثرة، وأن تزاول طقوسها خاصة في شهر رمضان، رغم ضيق ذات اليد وتدهور وضعيات السكن والافتقاد لذكريات رمضان الأمس في أوطانهم المستباحة. لكن لابد من مواصلة الحياة والتمسك بها حتى لو أجتث الواحد منا من أرض الوطن ودفعته الظروف إلى ترك أمسه المليء بالذكريات الحلوة والعض على جرحه، فإرادة الحياة باقية مهما أطبقت المصاعب جدرانها الضيقة على ضلوع اللاجئين الهشة. فبوجوه غادرتها الابتسامة منذ وقت، وأحداق استوطنتها الأحزان والفواجع، يلملم اللاجئون جراحهم ويطرقون السمع كما كل مسلمي العالم انتظار قدوم الشهر الكريم، ورغم آلامهم العميقة يسعدون بحلول هذا الشهر الكريم، ويتبادلون التهاني بمجيئه ويطلقون الأمنيات بسخاء في لياليه وأيامه المباركات لعل الله يفرج كربهم ويجبر كسرهم ويخلص أوطانهم ويعيدهم لأرض تحرقوا شوقا لرائحة ترابها وطعم مائها ونفحاتها الرمضانية التي لا تغادر مخيلاتهم. موائد مما تيسر الخيمة هي البيت الهش الجامع لهذه العائلات، وفي مساحتها الضيقة التي تغص بالأفراد والمفارش والألبسة تخصص زاوية صغيرة لإعداد إفطار الصائمين لهذه العائلة أو تلك. المساعدات وما تيسر مما يكسبه أفراد العائلة من رزق محدود من خلال العمل في مهن شتى منها مقالع الحجارة وغيرها، هو شريان الحياة لهذه الأسر التي تتوسع خيمها كالفطر في البرية على مد البصر. وعلى موقد متواضع جدا وبما وجد من بعض الأواني المتهالكة والشحيحة وبما توفر من خضروات وأرز يجهر إفطار الصائمين داخل هذه الخيم أو خارجها، والتي يقتصد أهلها في استعمال الماء لأن جلبه فيه مشقة كبيرة، وعليه طلب أكبر من الجميع. فلا تكاد تبلل الخضروات ببعض الماء وتضاف لطبخة اليوم التي قد تمتد وتتكرر على أغلب أيام هذا الشهر، فالتنوع بذخ غير متاح للجميع هنا إلا ما ندر وفي بعض الأيام، أو متى اجتمعت نسوة المخيم لأكثر من عائلة وجلت كل واحدة منهن ما تيسر لديها في خيمتها وأعدت كل منهن صنفا معينا من الطعام وتناولن مع أسرهن وجبة يمكن القول أنها متنوعة عند الإفطار، ربما فيها أرز وسلطة وشيء من الشوربة، وهذه تعد مأدبة لا تكرر إلا نادرا. وعند الإفطار يتجمع أفراد الأسرة الذين هم في العادة أكثر من خمسة أشخاص داخل خيمتهم المتواضعة ويستهلون إفطارهم بشربة ماء أضفت عليها سخونة الجو شيء من الحرارة، فالماء البارد في هذا الجو الحار ترف إضافي ليس متاحا لهؤلاء القابعين في أحضان اللجوء، فيتناولون ما قسم الله لهم من رزق شاكرين فضله وصابرين على بلائهم. وبعد صلاة التراويح تفترش عدة عائلات الأرض بقطعة من حصير أو ما شابه ذلك، فرارا من حر الخيام، ويجلسون لشرب بعض الشاي ويتبادلون أطراف الحديث ويتسامرون لينسوا تعب أيامهم، وبين الحين والآخر تسمع بعض ضحكاتهم، فهنا توجد إرادة للحياة تكبلها الصعاب لكنها تأبى إلا الصمود في وجه وجعها، ولا تقطع الأمل أبدا، فغدا يوم آخر ربما يكون أفضل إن شاء الله وإن طال غيابه. وتطوى أيام الشهر الكريم رداءها الطاهر معلنة رحيلها عن تلك البيوت القماشية البيضاء، ويودعها سكانها بكثير من الشوق والأمنيات والدعاء، ملوحين بدموعهم على أمل أن يعاود هذا الشهر الكريم زيارته لهم سنوات مديدة في ديار تركوها عنوة ويشتاقون لها ولمصافحة رمضان في باحاتها ومساجدها وفناءات بيوتها الآمنة.