بقلم: سعيد يقطين عندما يتابع المرء ما يجري في غزة وما تتعرض له من دمار وهمجية، لا يمكنه إلا أن يتساءل عن (إنسانية) الإنسان في هذا العصر الذي يعتبر أرقى العصور على مستوى ما تحقق فيه مما كان الإنسان يحلم به منذ القدم. بل إن تساؤله لا يمكن إلا أن يمتزج بالاستغراب عندما يتعلق الأمر بمدى التزام الإنسان المعاصر ب(المواثيق) والمعاهدات التي تتصل بحقوق الإنسان،،، أم أن (النزعة) الإنسانية والحقوقية شأن داخلي، وأمام (الآخر) العدو كل شيء مباح ومتاح، وإن كان يتعارض مع القيم والأفكار التي صاغها الغرب نفسه منذ عصر الأنوار، أو يتناقض مع القوانين التي سطرها بعد الحرب الثانية؟ لا غرابة أن نجد في الممارسات الإسرائيلية ضد المدنيين في غزة ما يبرر تلك الهمجية. فهي، من جهة، متأصلة في المتخيل اليهودي، وهي من جهة ثانية مدعومة من لدن أمريكا التي لم تأخذ من الفكر الأوروبي سوى الفردانية المتوحشة، وكراهية الآخر الذي لا يسايرها. إن أسطورة (شعب الله المختار) لا تختلف عن أسطورة (العم سام)، وما هذا السم إلا من تلك الأفعى. إنها مناظرة لها في إعلان التفوق، والقدرة على تبرير التصرفات الخرقاء ضد (الآخر المختلف). يكفي تذكر الهجوم النووي على هيروشيما، وناجازاكي، مخلفا حصيلة من الأرواح تعدت مائتين وعشرين ألفا، هذا عدا الآثار الإشعاعية المترتبة عن الهجوم النووي. وفي الوقت الذي كانت تمارس إسرائيل الدمار نفسه على شعب أعزل، خلد اليابانيون ذكرى تلك الجريمة النكراء في تاريخ البشرية. وما تسمية الهجوم على المدينتين بالولد الصغير والرجل البدين سوى تأكيد على أسطورة الجزار العم سام الذي لا يستنكف عن التقتيل؟ يسير (شعب الله المختار) على خطى سيده (العم سام) في ممارسة التدمير والتقتيل. وما يجري في غزة من إبادة واستنزاف بدون مراعاة لأبسط حقوق الإنسان بذرائع واهية، ليس سوى التمثيل الأجلى للسياسة الهمجية نفسها. ألم تتأسس تلك الأسطورة على كراهية الآخر، غير اليهودي، وادعاء معاملته معاملة عدوانية، واعتباره حيوانا لا يليق بالمعاملة الملائمة، بل يمكن لليهودي أن يطعم الحيوان ولا يفعل مع غير اليهودي. يأمر التلمود اليهودي بسد الحفرة التي وقع فيها غير اليهودي بحجر، وأن يقتل من قدر عليه من غير اليهود،،، وما المعاملة بالربا، والنفاق، والرياء سوى جزء بسيط من الأخلاقيات التي تطبع سلوكه. لا غرابة أن، نجد كل هذه الممارسات، وقد صارت إسرائيل مدججة بالأسلحة المحظورة، وبالعتاد الذي يمدها به العام سام، أن تستنسر على المدنيين في غزة، وتستفرغ كل الحقد التاريخي الذي يملأ جعبتها السامة ضد ما هو حضاري وإنساني في فلسطين. كثيرون، على المستوى الدولي، راحوا الآن يتحدثون عن (جرائم ضد الإنسانية) تمارسها إسرائيل في غزة. لكن أفدح الجرائم التي تمارسها هي ضد الإنسان الفلسطيني. إذا كان قتل الأطفال والنساء والمدنيين، وتدمير البنيات التحتية واقتلاع الأشجار، وهدم البيوت، وقطع مقومات الحياة من ماء وكهرباء على الإنسان جزءا من تلك الجرائم، فإن سرقة التراث الفلسطيني في مختلف أشكاله وصوره، وادعاء ملكيته وتسويقه على أنه تراث إسرائيلي، يدخل كل ذلك في نطاق. ويمكن قول الشيء نفسه، عن التدمير الكلي ل 66 مسجدا، وتعريض 150 مسجد للضرر، وتدمير كنيسة وإحدى عشرة مقبرة في غزة، هذا عدا استهداف المدارس والمستشفيات والجامعات. إن الهمجية الصهيونية وبربريتها لا تجعلانها تكتفي بتدمير البلاد والعباد، ولكن أيضا التراث الإنساني والحضاري لشعوب المنطقة. إن إسرائيل في جرائمها الثقافية تسير على منوال أمريكا التي دمرت حضارات الشعوب الأصلية، وها هي تسهم في نشر في كل بلد تحل فيه. لقد كانت هذه الجرائم ماثلة أمام مسمع ومرأى العالم أجمع، حين دخلت العراق محتلة. لقد دمرت الآثار التي تعاقبت عليها حضارات عريقة، ونهبت المتاحف التي كانت تحوي أقدم الآثار الإنسانية، ولم تسلم منها حتى المكتبات العامة والخاصة، بل إن شارع المتنبي الذي كان يعتبر معلمة ثقافية في العراق الحديث تعرض بدوره للقصف الممنهج والمقصود والمتعمد؟ كما أن استهداف العلماء والأدباء والفنانين العراقيين، وتعريضهم للهجرة، سوى جزء من تلك. إن الشعوب التي تأصل في متخيلها الجماعي بغض الآخر وكراهيته، لا يمكنها أن تحترم الإنسان أو التراث التاريخي والثقافي للإنسان. ويمكن قول الشيء نفسه عن الشعوب التي تشكلت عن طريق الهجرة، وبنت لذاتها مقومات تنهض على أساس النهب، والبحث عن الذهب. إنها تكره الإنسان المختلف عنها لأنه يحمل وراءه تاريخا عريقا وأصيلا. ولذلك فهي حين تستهين بالتراث الثقافي لغيرها من الشعوب، وتعرضه للدمار، تريد أن تساويها بها فتغدو، مثلها، بلا تاريخ ولا ذاكرة. إذا كانت هذه التي تتفنن إسرائيل وأمريكا في ممارستها مبررة لهمجيتهما، فإنها للأسف صارت أنموذجا لدى المتطرفين الإسلاميين، فباتوا يدمرون التاريخ الحضاري للمنطقة، باسم الإسلام، وهو من هذه براء. فمما أوصى به أبو بكر الصديق جنوده قبل فتح بلاد الشام: (لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له...). ما أوسع المسافة بين الحضارة والتسامح الديني، والهمجية وكراهية الآخر، وبناء الحضارة وتدمير الآثار الحضارية.