كانت الأعياد في وقت سابق، ولازالت عند البعض، فرصة للتغافر والتراحم بين أعدى الأعداء، رغم أنّ هذه الصفة كان لا بدّ ألاّ تقتصر على العيد فقط، مثلما صرنا لا نصلي إلاّ في رمضان ولا نتصدق إلاّ في عيد الفطر، ولا نفعل واجباتنا إلاّ في المناسبات· لكن على الأقل كنا نتسامح في العيد، ورضينا بذلك، وكنا نفرح عندما نسامح شخصا قد أضر بنا، ونشعر كأننا فعلنا شيئا جميلا وعظيما، بل نكون قد فعلنا شيئا جميلا وعظيما· لكنّ صفة التسامح يبدو أنها انقرضت أو تكاد من قلوب المواطنين، أو صار لها شروط لا بد أن تتوفر حتى يسامح المواطن أخاه أو جاره أو ابن الحي أو آخر· صار للتسامح أنواع، منها التسامح الرياء وتسامح الغدر وتسامح المصلحة، لكن أبدا تسامح التسامح· للأسف، فحتى الصفات النبيلة امتزجت واختلطت بالحقارة والدناءة، وفرغت بالتالي من محتواها، حتى صرنا لا نفرق، أو لا نصدق شخصا إذا أتى فعلا جميلا، لأنه قد لا يكون غلافا ليس إلاّ، لأمر مدبر· أمّا تسامح الرياء، فهو أن يسامح الإنسان شخصا آخر ليس لأن العيد مناسبة لتحطيم الحواجز، بل لأنه أحب أن يظهر من التسامح ما ليس فيه، حبا في البشر وليس في الله، وهو أقل الأنواع خطرا، لأنه على الأقل أدرك أن التسامح صفة نبيلة فراح يتفاخر ويتباهى بها أمام الغير· أمّا تسامح المصلحة، فهي أن يسامح الفرد ويغفر لأشخاص أساءوا إليه، ولكنه يفكر في أنه سيكون بحاجة إليهم مستقبلا، فتجده يسارع إليهم ليزيل الحاجز الذي انكسر بينه وبينهم، ولا يفكر إلاّ في ما سيجنيه من وراء فعله هذا، وفي مستقبل علاقتهما وما يربحه منه ومنها· أمّا التسامح الأخطر فهو تسامح الغدر، أي أن يسامح الشخص صديقه أو جاره، لكنه يظهر له ما لا يبطن، وينوي أن يكيد به بعدما يصلح ما كان بينهما من عداوة ومأساة· لم يحدث هذا الاختلاط في المعاني، إلاّ لأننا لم نفهم شيئا، فاختلط علينا كل شيء، فلو أننا فهمنا ما معنى الخير، لاستطعنا أن نفهم الشر، أو على الأقل نتبيّنه عند الضرورة، ولا نخلط كل شيء بكل شيء، مثلما صرنا نفعل اليوم، فنحن تلقينا الصفات والمعاني بشكل نظري، في المدرسة وفي الشارع كانت الصفات والأخلاق نظرية، فكنا نراها على شكل دروس، ولكن لا تطبق· يقولون لنا إنّ الصدق جميل، لكن لا يطبقونه، ويقولون لنا إنّ الوفاء والأمانة والصلح كلها أخلاق جميلة ومطلوبة، ولكن لا نراها أبدا في حياتنا اليومية، وحتى من الأشخاص الذين يوصوننا بها، فاختل كل شيء في نظرنا وتبدّل، حتى صرنا لا نفرق بين ما هو جميل وما هو بشع في حياة كثرت فيها المفاهيم واختلت الموازين·