بقلم: ساري عرابي لا يبدو، حتى اللحظة، أن السياسات العدوانية وغير المسبوقة التي ينتهجها النظام الانقلابي المصري، وما تعكسه من مؤشرات خطيرة على تموضع هذه السياسات في سياق مشروع كبير لتصفية القضية الفلسطينية؛ تثير ردود أفعال ترقى إلى مستوى الممارسات العدوانية غير المسبوقة، أو إلى مستوى المؤشرات على هذا المشروع التصفوي الكبير، وذلك بخلاف ما كان عليه الحال فترة المخلوع حسني مبارك، الذي لم تصل إجراءاته التي تستهدف المقاومة الفلسطينية إلى الحد الأدنى من ممارسات عبد الفتاح السيسي ونظامه. بطبيعة الحال، فإن الحديث هنا عن القوى والشخصيات العربية التي اتخذت موقفًا نضاليًا صاخبًا في دعم المقاومة الفلسطينية، وعمودها الفقري الذي مثلته حركة المقاومة الإسلامية حماس ، وفي معارضة سياسات نظام مبارك المعادية للمقاومة الفلسطينية خصوصًا، وللقضية الفلسطينية عمومًا، وذلك على مدى فترة طويلة من حكم المخلوع. إن أكثر هذه القوى والشخصيات اليوم في حالة نكوص مزرية، تتراوح مواقفها فيها ما بين الدفاع عن السيسي والانحياز له، أو السكوت عن سياساته الخطيرة المعلومة، والتي لا تحتاج بدورها إلى التدليل عليها، أو محاولة إثبات النوايا العدوانية خلفها، لأن سلوك النظام الانقلابي المصري مكشوف إلى الحد الذي يجعل المناقشة في حقيقة موقفه العدواني محض عبث، فنحن إزاء معلومات وحقائق تتكلم بدورها عن طبيعة المواقف وتؤشر على المدى الذي يمكن أن تصل إليه المؤامرة في استهداف المقاومة الفلسطينية على طريق تصفية القضية الفلسطينية. من الممكن تفسير حالة النكوص هذه، باختلاط الأوراق وتغير المواقع والتحالفات من بعد الثورات العربية التي صعدت بالإسلاميين إلى الواجهة ما أثار غرائز الحسد البدائية لدى القوى القومية واليسارية والتي كانت حليفة للإسلاميين على الأقل في القضايا القومية الكبرى وفي طليعتها القضية الفلسطينية، بيد أن وصول الثورة العربية إلى دمشق هو الذي بلغ بالعاصفة إلى مداها في خلط الأوراق، ما جعل الإسلاميين خصمًا للمحاور الإقليمية المتصارعة، إن المحور الأمريكي/ الإسرائيلي الممثل عربيًا ببعض الممالك العربية وبالنظام المصري، أو المحور الإيراني والممثل بصورة أساسية بإيران والنظام السوري وحزب الله، حيث صار عبد الفتاح السياسي نقطة التقاء بين المحورين من خلال اشتغاله الدموي على استئصال الإسلاميين، وهو ما كشف عن كون القضية الفلسطينية في مرتبة دنيا بالقياس إلى غرائز الحسد والانتقام لدى تلك القوى والشخصيات التي روجت لنفسها طويلاً من بوابة القضية الفلسطينية. حاولت بعض تلك القوى والشخصيات إعادة تأويل ممارسات عبد الفتاح السيسي ضد المقاومة الفلسطينية، كحل لأزمة التناقض الأخلاقي والمبدئي التي خلقها انحيازهم للسيسي أو سكوتهم عنه، في حين لا يكتفي هو بالوقوف حاميًا ل إسرائيل كما يعلن صراحة، ولكنه يمضي سريعًا في خنق المقاومة الفلسطينية نحو إنهائها تمامًا، فصوروا عدوانه المتصاعد ضد المقاومة الفلسطينية على أنه استهداف يقتصر على حركة حماس بصفتها حركة إخوانية! السقوط الأخلاقي لم تكن محاولة التأويل هذه إلا مزيدًا من السقوط الأخلاقي والتورط في مغالطات جديدة ثقيلة؛ ليس فقط لأن إنهاء حماس يعني بالضرورة إنهاء لقوى المقاومة الأخرى التي لا تملك وحدها مواجهة هكذا مخطط، والتي ما كان لها أن تعزز قدراتها المقاومة إلا في ظل حكم حماس، وهو ما يفرض عليها بالضرورة موقفًا أخلاقيًا وسياسيًا ضد هذه المؤامرة التي ترتكز إلى النظام الانقلابي في مصر، ولكن أيضًا لأن الشعب الفلسطيني كله، وتحديدًا في هذه اللحظة في قطاع غزة إضافة إلى أهالي سيناء، يدفعون ثمن جرائم النظام الانقلابي ضد نظام السيسي، فضلاً عن كون العدو الصهيوني هو المستفيد الوحيد من سياسات هذا النظام والتي زادت في مستواها عن كونها امتدادًا لسياسات نظام مبارك، ما يوجب مبدئيًا وأخلاقيًا أن يكون الموقف المعارض لنظام السيسي أشد قوة ووضوحًا مما كان عليه الحال فترة المخلوع مبارك. ليس هذا التأويل إذن أكثر من محاولة ساقطة لإراحة الضمير أو مغالطة عارية تتعمد الوقاحة والاستخفاف، وهو تأويل أيضًا لا يغفر لبعض الفصائل التي أراحها تصوير الأزمة على هذا النحو لتسويغ محاولة استفادتها الانتهازية من النظام الانقلابي في مصر، لأن الصعود على أشلاء حماس لن يكون في النتيجة إلا تضحية بالمقاومة التي لا معنى لتلك الفصائل دونها، إلا أن الغريب هو ارتياح بعض الكتاب والمثقفين المحسوبين على حماس إلى هذا التأويل، حتى انتهى الأمر ببعضهم إلى دعوة حماس لإعلان فك ارتباطها بالإخوان أو حل نفسها كحل سحري لأزمتها في غزة، في مشهد مريع من العمى وجلد النفس، ذلك لأنهم لم يأخذوا بعين الاعتبار أن مشكلة النظام الانقلابي مع حماس في كونها أساسًا حركة مقاومة لا في كونها حركة إخوانية، ولأنهم لم يدركوا موقع القضية الفلسطينية من حدث الانقلاب المصري وسياساته، فاعتبروا أن المشكلة لها طرف واحد وهو حماس ببعدها الإخواني، مبرئين من الناحية الفعلية النظام الانقلابي من دوافعه العدوانية التأسيسية والابتدائية ضد حركة حماس! وهنا يظهر تحليل آخر لسياسات النظام الانقلابي ضد المقاومة الفلسطينية؛ يقر باستفادة العدو الصهيوني منها، وأنها تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية لصالح تشكل محور عربي جديد، يتكون أساسًا من السعودية والإمارات والنظام الانقلابي في مصر، لمواجهة المحور الإيراني الذي يتمدد في العراق وسوريا ولبنان واليمن، دون أن تكون سياسات النظام الانقلابي ناجمة بالضرورة عن علاقة عضوية بالكيان الصهيوني، أو تعبيرًا عن الاستجابة لأوامر صهيونية. إن هذا التحليل، ورغم إدراكه لها، فإنه لا يعطي الوزن الفعلي لحقيقة أن المحور الخليجي/ المصري لم يكن في حالة تناقض حقيقية مع الكيان الصهيوني، وأن المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية كانت تصدر تاريخيًا عن هذا المحور العربي، والذي لم يكن في أي وقت سابق معنيًا بالتصعيد في فلسطين، أو بوجود حركة مقاومة قوية داخل فلسطين، وبالتالي فلا يوجد أي تعارض بين كون النظام الانقلابي المصري موجودًا داخل هذا المحور، وبين كونه مرتبطا عضويًا بالكيان الصهيوني. كما أنه لا يمكن القول بعد بأن موقف النظام الانقلابي المصري قد تحدد بصورة نهائية ضد المحور الإيراني وسياساته في البلاد التي يتمدد فيها وتحديدًا داخل العراق وسوريا، بل إن المؤشرات التي قدمها النظام الانقلابي تشير إلى عدم تطابق مواقفه مع السعودية تجاه هذه الموضوعة، إضافة إلى كون العديد من الأطراف المرتبطة بالمحور الإيراني لا تكف عن السعي إلى محاولة توثيق العلاقات مع النظام الانقلابي، وأيضًا فإنه لا يمكن إغفال المشتركات بين المحورين حتى اللحظة والتي تمثلها أولوية الحرب على الإسلاميين. إنه ورغم أن النتيجة واحدة، لممارسات النظام الانقلابي ضد المقاومة الفلسطينية إن كتب لها الاستمرار والنجاح، وهي القضاء على هذه المقاومة ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية، سواء كانت مرجعيته الأولى خليجية أو صهيونية، فإن تحديد المرجعية الأولى له بصورة صحيحة، ضروري لصحة التحليل والقدرة على توقع السياسات القادمة. والذي يبدو من مجمل المعطيات الظاهرة وما تدل عليه من حقائق مخفية؛ أن الكيان الصهيوني كان من أهم صانعي الانقلاب في مصر، وأن مصلحته المشتركة مع بعض دول الخليج في هذا الانقلاب لا تنفي أبدًا أنه المرجعية الأولى والأهم لهذا الانقلاب وقائده!