بقلم: بودرع ياسر الانهيار الكبير هو ربما أدق تعبير يمكن أن نصف به التراجع الرهيب الحاصل في أسعار النفط وهو الهبوط الذي استمر حتى بعد انعقاد جلسة أوبك الأخيرة، حيث وصل سعر البرميل الواحد إلى 70 دولارا مما يجعل السؤال الكبير متمركزا حول أسباب وخلفيات هذا الانخفاض المفاجئ والأبعاد والتداعيات الإقليمية والدولية! هناك جوانب موضوعية مبررة اقتصاديا توضح أن المناخ الاقتصادي العالمي الحالي يختلف عما سبق فأهم سبب لانخفاض الأسعار زيادة العرض وتراجع الطلب وهي المعادلة الكلاسيكية لتحليل متغيرات السوق، حيث تنخفض الأسعار عندما تكون هناك وفرة في العرض، وهذا نتيجة منطقية لتباطؤ النمو الذي تشهده الأسواق العالمية خاصة الكبيرة منها والمؤثرة بشكل مباشر في الاقتصاد العالمي كالسوق الصينية والسوق الأمريكية وكذلك الأوروبية التي لم تجد بعد الآليات الكفيلة بإعادة تحقيق النمو الاقتصادي وتخطي مرحلة الركود، ومع استعادة قطاع النفط في ليبيا عافيته تدريجيا ووجود سوق موازية لبيع النفط بأسعار منخفضة والحديث هنا عن إيران جراء العقوبات المفروضة عليها وكذلك في المناطق التي تسيطر عليها جماعات مسلحة في كل من ليبيا وسوريا والعراق وإقليم كردستان كلها عوامل دفعت ببعض الشركات النفطية الخليجية الكبرى إلى خفض سعر بيعها. عامل موضوعي آخر فرض نفسه على منظمة أوبك التي لم تعد اللاعب الرئيسي الوحيد في سوق النفط العالمية إذا ما أخذنا نسبة إنتاج النفط من خارج هذه المنظمة فأي خفض لنسب إنتاجها يعني فتح المجال لمنتجين من خارجها لأخذ تلك الحصص في السوق، إضافة إلى حقيقة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تسير بخطى ثابتة لتكون بلدا مصدرا للنفط لا منتجا للاستهلاك المحلي فقط فأمريكا تقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة بعد توجهها إلى الاعتماد المتزايد على النفط الصخري وشركة (شل) تعمل بوتيرة إنتاج عالية كما لم تفعل من قبل وتتزايد الأصوات المنادية في أمريكا بالتحول إلى مرحلة التصدير وهو المطلب الذي يلح عليه بعض السياسيين في الحزب الجمهوري المسيطر على مجلس الشيوخ. وأمام هذا الواقع الجديد في سوق النفط العالمي قد يكون من المنطقي أن تذهب بعض الدول الكبيرة في أوبك إلى الدفع بأسعار النفط إلى الهبوط لإخراج النفط الصخري الأمريكي من المنافسة في السوق، إذ أن انخفاض أسعار النفط سيثني الولاياتالمتحدة وبقية الدول عن المضي قدما في مشروع النفط الصخري الذي ينطوي على تكاليف باهظة ولا غرابة أن نجد السعودية تحاول جاهدة البقاء في وضع المسيطر عالميا إذا تعلق الأمر بقطاع النفط حتى لو تطلب ذلك خفضا لسعر البترول في المرحلة الراهنة. التفسيرات الاقتصادية موضوعية لكنها وبكل تأكيد تبدو غير قادرة لوحدها على تفسير هذا الانهيار الكبير والمفاجئ في أسعار النفط الذي لطالما تم إقحامه في حروب صامتة لا أسلحة فيها ولا جيوش لكنها مؤثرة وفعالة إلى أبعد الحدود، اجتماع أوبك الأخير عكس خلافات واضحة هي بالتأكيد أبعد من كونها خلافات حول الاستراتيجيات الاقتصادية بل تتعداها إلى خلافات جيوستراتيجية وحسابات سياسية فرضتها التحولات الأخيرة على الساحة الدولية والدليل أن اجتماع أوبك قد اتخذ قرارا بخلاف المنطق حين قررت المنظمة أن تبقي على نفس حصص الإنتاج دون خفضها رغم أن أسعار النفط دائما ما ترتفع في فصل الشتاء، إضافة إلى التوتر الحاصل في دول منتجة للنفط كالعراق وليبيا وكلها عوامل تدفع بالأسعار للارتفاع لكن العكس ما يحدث ويدفعنا إلى البحث في الدوافع الحقيقية التي جعلت السعودية تسعى جاهدة لإبقاء سعر النفط منخفضا. * السياسة والبترول علمنا التاريخ أن الأحداث والتوترات في العلاقات الدولية كانت دائما العامل الرئيسي المتحكم في ارتفاع وانخفاض أسعار البترول وهذه المرة لن تشد عن القاعدة فأمريكا والسعودية في شبه اتفاق ضمني تدركان جيدا حجم الضغط الهائل الذي يسببه انخفاض أسعار النفط على كل من إيرانوروسيا وقد تزامن هذا الانخفاض في الأسعار مع المحادثات الاقتصادية الروسية الإيرانية التي أفضت إلى اتفاقات مهمة بين الطرفين، فالضغط الاقتصادي على إيران سيؤثر عليها ويجبرها على إعادة حساباتها في دعمها لنظام الأسد وبقية التنظيمات الطائفية المرتبطة بها في الشرق الأوسط من حزب الله في لبنان إلى الحوثيين في اليمن وأذرعها في العراق والبحرين فيما يشبه حصارا شيعيا للسنة بالشرق الأوسط، هذه الضغوط على إيران أدت بنظام الأسد مؤخرا إلى طلب قرض من روسيا، هذه الأخيرة سيزيد الضغط عليها وعلى موازناتها هي الأخرى كونها من الدول الأكثر اعتمادا على عائدات النفط والغاز ولا شك أن موسكو ستعتبر تصلب موقف السعودية الذي أدى إلى انخفاض أسعار النفط استمرارا للعقوبات والضغوط الاقتصادية الأمريكية والأوروبية المفروضة عليها. سيطرة أمريكا على النفط في الشرق الأوسط ليس أمرا جديدا فالنفط مركزي في طريقة الحياة الأمريكية وهي أكبر مستهلك للنفط وباعتبارها قوة مهيمنة فهي لم تكن لتترك كل تلك الثروة الحيوية في الشرق الأوسط خارج سيطرتها وكل الأحداث والحروب الكبرى في الشرق الأوسط كانت على علاقة مباشرة بالنفط والسيطرة عليه التي بدأت فعليا منذ عهد إدارة روزفلت سنة 1945 عندما استقبل الأخير الملك السعودي عبد العزيز بن سعود، حيث تثبت المراجع أن الحوار دار حول ضمان المصالح النفطية الأمريكية مقابل الحماية من التهديدات المحتملة على السعودية، وبعد أزمة حظر النفط في السبعينات تعلمت أمريكا الدرس جيدا وعملت على خلق تهديدات ومخاطر في المنطقة تجعل دول الشرق الأوسط تقتنع أنه لا مفر من التعاون مع أمريكا التي توفر لهم الحماية ضد تلك المخاطر المحتملة فالسعودية اليوم تواجه خطر داعش بعد أن أصبحت فزاعة القاعدة من الماضي كما تواجه الهاجس القديم المتعلق بالتهديد الإيراني لها وكامل الخليج العربي. الأكيد أن تراجع أسعار النفط خلف ارتياحا لدى القوى الاقتصادية المصنعة ذات الاقتصادات المتعثرة جراء الأزمة الاقتصادية العالمية في مقابل قلق وهواجس في كثير من دوائر صناعة القرار السياسي والاقتصادي لدى الدول المنتجة للنفط، وإذا كانت السعودية ودول الخليج بعيدة عن تأثيرات تراجع الأسعار على المدى المتوسط حيث إن احتياطات صرفها الكبيرة تمكنها من تغطية أي عجز محتمل فإن دول روسياوإيران والجزائر والعراق وفنزويلا وليبيا وغيرهم سوف لن ينظروا بعين الرضا للخطوة السعودية لأن ميزانياتها ومشاريعها الداخلية ستتأثر ولا يمكن أن تقف متفرجة على ذلك فالنفط بالنسبة إلى هذه الدول قضية أمن قومي، ومن غير المستبعد إذا طالت مدة انخفاض أسعار النفط أن تكون هناك ردة فعل عنيفة من موسكو أو طهران فحرب الخليج الثانية بدأت قصتها عندما رفعت الكويت حصة إنتاجها بشكل أدى إلى انخفاض كبير في أسعار النفط مما أثر على الاقتصاد العراقي الذي كان يحاول التعافي بعد حرب الثماني سنوات مع إيران فكان الاجتياح العراقي للكويت في حبكة أمريكية متقنة للسيطرة على الشرق الأوسط والتخلص من صدام حسين.