بقلم: بودرع ياسر تمر الذكرى الرابعة على حادثة محمد البوعزيزي، الذي أضرم النار في جسده فاشتعلت معه نار ما عرف بثورات الربيع العربي التي ما تزال ظاهرة تسيل الكثير من الحبر انطلاقا من خلفياتها وأسبابها ووصولا إلى نتائجها وما ترتب عنها، خصوصا حالة الانقسام التي أفرزتها في الشارعين العربي والإقليمي وحتى الدولي ما يفرض علينا تسليط مزيد من الضوء عليها لفهم كنهها والكشف عن مختلف زواياها وجوانبها. كان الوضع في أغلب الدول العربية قابلا للانفجار في أي لحظة نظرا إلى حالة القهر والحرمان والتهميش والذل التي تعيشه قطاعات واسعة من شعوب تلك الدول وبالأخص فئة الشباب المكون الرئيسي للمجتمعات العربية فأغلبهم متعلم وحامل للشهادات ويعيش بطالة طويلة، هذه الشعوب ضاقت ذرعا بالأوضاع المعيشية المتردية والفشل الاقتصادي ومحدودية الأفق السياسي في ظل حكم الأوليغارشية التي تتحكم في كامل القرار السياسي وتسيطر على الاقتصاد والتسيير، ممما خلق جوا من الطغيان السياسي وسوء توزيع الثروة، ومن هنا نشأ وانتشر الفساد فأغلب هذه الدول لا تتزحزح عن المراتب الأولى لقوائم الدول الأكثر فسادا حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية وهو ما يجعل هذه الأنظمة تتسول الشرعية من الخارج مقابل رهن قرارها السياسي. هذا الجو المحتقن تبلور مباشرة بعد حادثة البوعزيزي في تونس على شكل احتجاجات عفوية عارمة تطورت إلى ثورة شعبية جاءت على نظام زين العابدين بن علي، عمت بعدها مباشرة الاحتجاجات الشعبية مختلف الدول العربية مدنها وعواصمها، غير أن التطورات لم تكن بنفس المستوى بين تلك الدول فالاحتجاجات في بعضها كانت أقل حدة تعالت فيها الأصوات منادية بالإصلاح بدلا من التغيير الشامل، في حين تطورت الاحتجاجات في بعض الدول الأخرى وانتهت بسقوط الزعماء الأكثر تمسكا بالسلطة في كل من مصر وليبيا واليمن في وقت مازال فيه نظام الأسد صامدا أمام معارضيه في سوريا. بين العفوية والمؤامرة إن الثورات العربية يمكن أن تكون عبارة عن زعزعة للاستقرار أكثر من كونها ثورات شعبية عفوية، هكذا يقول أنصار نظرية المؤامرة فلا شيء ينفي أنه قد تم الإعداد لها مسبقا وبرنار هنري ليفي لا يختلف عن لورانس العرب والثورات العربية قد تكون لها نفس نتائج سايكس بيكو أي إضعاف العرب وتقسيمهم! بالرجوع إلى خلفيات الثورات العربية فإن أبرز حدث سبق تلك الثورات كان تسريبات ويكيليكس التي تجبرنا النتائج اللاحقة عنها على التفكير قليلا في مدى صدق الرواية الرسمية الأمريكية التي تزعم أنها تسريب، ونتساءل ماذا يمنع أن تكون تسريبا مقصودا أرادت واشنطن من خلاله ابتزاز البعض وإحراج آخرين حتى يدركوا جيدا من هو المتحكم في خيوط اللعبة وهذا لا يهمنا على كل حال بقدر ما يهمنا التأثير الذي خلقته تلك التسريبات، حيث صنعت ضجة إعلامية كبيرة وخلقت الكثير من البلبلة في الأوساط الإعلامية والشعبية وحتى الرسمية وأنا أتكلم هنا عن المستوى العربي بالدرجة الأولى، في رأيي كانت هذه التسريبات البداية الحقيقية لما عرف بثورات الربيع العربي، هذا الافتراض يجعل الثورات العربية موجهة ومخطط لها مسبقا وتحمل البصمة الأمريكية لإعادة ترتيب أوراقها في المنطقة، أمريكا دائما ما استخدمت نمطين من القوة (القوة الصلبة) كاحتلال العراق سنة 2003 و(القوة الناعمة) على الطريقة التي بلورها جين شارب مؤسس نظرية اللا عنف في الثورات المستمدة من كتابه من الدكتاتورية إلى الديمقراطية إذ لم يعد بالإمكان إنهاك الدول العربية بالطرق التقليدية كما حدث عند احتلال العراق الذي سبب حرجا دوليا للإدارة الأمريكية فتوجب عليها إيجاد طرق جديدة تقضي بزرع الفوضى في الدول العربية، وكل ما يحدث في المنطقة العربية اليوم يصب في خانة مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي بدأ فعليا سنة 2003 ويمثل حلم بوش والمحافظين الجدد بشرق أوسط ديمقراطي وسوق منفتحة. الضغط يولد الانفجار ما يذهب إليه أصحاب نظرية المؤامرة في تحليلهم لثورات الربيع العربي هو منطقي في بعض جوانبه، لكن برأيي من الظلم والإجحاف عدم الاعتراف بتعرض تلك الجماهير العربية للظلم والاضطهاد من نخب حاكمة مستبدة مارست عليها الوصاية والطغيان السياسي وزرعت فيها الإحباط النفسي، والقاعدة تقول الضغط يولد الانفجار ، ثم إن ما لا يستطيع أصحاب نظرية المؤامرة الإجابة عليه هو ذلك الجانب المتعلق بدعم أمريكا والغرب للدكتاتوريات العربية لعقود طويلة! فليس من مصلحتها ولا من مصلحة حليفتها إسرائيل أن تكون هناك حكومات ديمقراطية عربية تتخذ من الشرعية الشعبية قاعدة لها، وهو السبب الرئيسي الذي جعل الغرب يغض الطرف عن الهجوم المعاكس في مصر وما انجر عنه من انقلاب عسكري بكل المقاييس، هنا تحديدا أريد أن أشير إلى أن الثورات العربية بدأت شعبية عفوية لكن هذا لا ينفي أبدا أن الغرب لم يستغل الثورات الشعبية السلمية لتحويلها إلى فوضى عارمة وغوغاء تعود بدولها عقودا إلى الخلف فلطالما اتسمت استراتيجيات الغرب بالمرونة والتكيف مع المستجدات لتحقيق أكبر المكاسب، جميعنا سمع بالتواجد المخابراتي الغربي الكبير في ليبيا أثناء الثورة ممثلة في كل من فرنسا وبريطانيا وأمريكا التي تُعد شركاتها لصناعة السلاح أكبر مستفيد من الفوضى السائدة في ليبيا وسورياوالعراق واليمن، أين أصبح السلاح تجارة كل من لا تجارة له، هذه الفوضى دفعت بدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى زيادة ميزانيات التسلح لمواجهة الأخطار والتهديدات القائمة وهو ما سيرهق ميزانياتها ويؤثر على ديناميكية التنمية بها. لقد بات من المؤكد أن أكثر ما شوه ثورات الربيع العربي إلى جانب خروجها عن إطار السلمية هو استنجاد بعض الثوار بالمساعدة الخارجية، وربما هذا كان مخطط الغرب لوأد تلك الثورات السلمية فهم يعلمون جيدا أن مصداقية الثوار ستسقط بمجرد طلبهم التدخل الخارجي، هذا ما حدث في ليبيا أين تم الاستنجاد بالناتو الذي لم يتأخر في الاستجابة على نحو مريب وبدا أنه كان مستعجلا في التخلص من القذافي أكثر من الليبيين الذين ثاروا عليه! التدخل الأجنبي جاء بنتائج كارثية على دول الربيع العربي وجيرانها لما نتج عنه من فوضى وانتشار للسلاح الذي لم يتردد رجال المخابرات الأمريكية في السماح بتدفقه على مختلف الجماعات في ليبيا وسوريا، بعض أفراد تلك الجماعات كان في صفوف القاعدة وهو تكتيك أمريكي سمح لها بإعادة بسط نفوذها بقوة في المنطقة مجددا تحت ذريعة الحرب على الإرهاب. معضلة المصريين الثورات العربية أعادت المشكلة القديمة الجديدة إلى الواجهة، ومن وجهة نظر شخصية أراها معضلة العالم العربي بامتياز وأنا هنا أتحدث عن المشكلة الحاصلة بين التيار الإسلامي الذي يحوز على قاعدة شعبية واسعة ويرى أن من حقه ممارسة العمل السياسي وبين تيار آخر يرى أن الإسلاميين لا يمكنهم ممارسة العمل السياسي ولا يجب عليهم ذلك! هذه المعضلة أتت على كل مكاسب الثورة المصرية، صحيح أن الإخوان ارتكبوا أخطاء فبعدما أوصلتهم ثورة يناير إلى الحكم قرروا أن ينفردوا به في ظرف حساس كان يتوجب عليهم أن يشركوا الجميع في العملية السياسية دون إقصاء، هذا الخطأ الناجم عن قلة الخبرة في السياسة وغياب الحنكة في القيادة منح العسكر فرصة قيادة انقلاب عسكري على من جاءت بهم صناديق الانتخاب، نفس المعضلة ظهرت أيضا في ليبيا ما بعد القذافي التي تحولت إلى ساحة اقتتال بين الإخوة الأشقاء وأبرز أوجه الصراع بين اللواء المتقاعد خليفة حفتر وإخوان ليبيا حيث يعتبرهم الأول جماعات إرهابية، ولم تكن تونس بدورها بمعزل عن هذه المعضلة إذ بدا واضحا وجود دعم إقليمي لخصوم الإسلاميين الذين اعتبروا من جهتهم العملية السياسية في تونس في مرحلة خطر لوجود مال سياسي فاسد قادم من دول أخرى، هي ذات الدول التي عملت على شيطنة الثورات العربية وإفشالها وتساعد الآن ثورة مضادة في مصر بدأت بانقلاب عسكري ثم تبرئة كل رموز النظام السابق. لم يكن الثوار في بلدان الربيع العربي منذ البداية يملكون خطة مدروسة أو فكرة واضحة عن أهدافهم، ولم يملكوا تصورا لمرحلة ما بعد سقوط الأنظمة وهذا يجعل ثورات الربيع العربي بعيدة كليا عن كل أشكال التنظيم، وما بدا في البداية أنه إسقاط للدكتاتورية والفساد ووصول إلى الحرية والديمقراطية والازدهار لم يتحقق حتى الآن في أغلب دول الربيع العربي بعد أن تحطمت آماله بصخور الواقع الذي يقول إن إسقاط هرم النظام لا يعني شيئا أمام الدولة العميقة بمؤسساتها القوية والمعقدة التركيب مما يجعل طريق الديمقراطية شاقا فالتحول الديمقراطي يتطلب سنوات من الجهد والعمل والصبر، أعتقد أنه من غير الأخلاقي لوم الشعوب المقهورة التي انتفضت ضد الظلم والفساد والدكتاتورية العمياء في لحظة ما لأن ذلك سيعتبر تصفيقا للظلم والجلاد! لكن التحليل المنطقي يجعلني أصف الثورات العربية بالعشوائية والفوضوية، إذ افتقرت إلى النضج والعقلانية في أهم مراحلها والكارثة الأكبر أنها أوصلت أبناء الشعب الواحد إلى الاقتتال دون رحمة فضلا عن الدمار في البنية التحتية والانهيار الاقتصادي الذي لحق بدول الربيع، وأرى أن الثورات العربية من خلال نتائجها لم تقدم للشعوب العربية سوى الفوضى واللا استقرار واللا أمن وتردي المستوى المعيشي وكان ثمنها باهظا جدا. هكذا وبعد مرور أربع سنوات على انطلاق أول شرارة لثورات الربيع العربي مازالت الشعوب في دول الربيع مقسمة ومختلفة ومتقاتلة وكأنه كتب على شعوبنا العربية أن لا تتعلم كيف تحب بعضها وتتعايش مع بعضها البعض إذ لم تفهم بعد أن الوطن للجميع والجميع للوطن، الشعوب العربية لم تستطع بعد كل المآسي التي مرت عليها تكوين رؤية مشتركة للنهوض ببلدانها وتجسيد عقد اجتماعي يحقق اتفاقا على قواعد اللعبة من شأنها أن تكفل اختلاف الرؤى والأهداف والأساليب لكن تضع مصلحة الوطن وأمنه واستقراره كمسلمة مركزية لا تقبل الاختلاف حولها، وفي عتمة ليل الربيع العربي بانت أولى خيوط النور تبشر بقدوم يوم مشرق يبزغ من تونس ونتمنى أن تكون التجربة التونسية مثالا عن التغيير السلمي النابع عن إرادة الشعوب لتحقيق طموحاتها وازدهارها.