ظاهرة التناصح والمراجعة بل والنقد من الظواهر السليمة والصحيّة في المجتمعات الفاضلة، ومنارة باسقة تدل على فلاح الأمم ونجاحها، وعامل أساسي للتطوّر والتقدّم وتجاوز السلبيات والإخفاقات. وهي ظاهرة وأمرٌ ندبت إليه الشريعة الإسلامية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: 18]. وهذه إشارة ربانية إلى المراجعة الشخصية ونقد الذات قبل المثول أمام الله يوم القيامة. وهاهي نظريّة عمر الفاروق -رضي الله عنه- تصدح في كل زمان عبر التاريخ: (رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي)، وهو هنا يتكلم على مستوى الدولة، أما على مستوى الأفراد فيقول: حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أنْ توزنوا؛ فإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل). فالنقد والمراجعة والتناصح ظاهرةٌ إسلاميّة أصيلة قبل أنْ تكون ظاهرةً مستوردة، وخلقٌ إسلاميّ عاشه صالحو هذه الأمّة من القادة والعلماء والمفكرين قبل أنْ يكون ممارسةً لدى دول الغرب الديمقراطي، فلا خلاف ولا إشكال إذاً في مشروعيّة وأهميّة المصارحة والمراجعة وتصحيح المسار، بل سر أزمات المجتمعات في تجاهل هذه الظاهرة وتميع مواقفها تجاه السلبيات ومحاولة خلق الأعذار، دون حسم الإخفاقات باقتدار. وتواصوا بالحق قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}[سورة العصر] .. هذه الآيات فيها وعيد شديد، وذلك لأنه تعالى حكم بالخسارة على جميع الناس إلا من كان آتياً بهذه السلوكيات الأربعة، وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور، وإنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه فكذلك يلزمه في غيره أمور، منها: الدعاء إلى الدين، والنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ثم كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه، والأول الأمر بالمعروف، والثاني النهي عن المنكر، ومنه قوله: {وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] (تفسير الرازي:17/201 بتصرف) ومما يدل أيضًا على عِظَم مقام النُّصح في الدين ولزومه وتأكُّده وضرورة إشاعته بين أبناء المجتمع المسلم أنه -صلوات الله وسلامه عليه- كان يشرُطُه على من يُبايِعه على الإسلام، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن زياد بن علاقة أنه قال: سمعت جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول يوم مات المغيرة بن شعبة: إني أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: أُبايِعُك على الإسلام، فشَرَط عليَّ: (والنُّصح [أي: وعلى النُّصح] لكل مسلم)، فبايعتُه على هذا. وقد أخبر رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- عن عِظَم مقام النُّصح في دين الله تعالى، وعن شرف منزلته في حديثٍ عظيمٍ هو من جوامع كلِمِه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة). قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) [أخرجه مسلم]. لا تحبون الناصحين يقول ابن قدامة عن صفتي (المصارحة والمناصحة): (وقد عز في هذا الزمان وجود صديق على هذه الصفة، لأنه قل في الأصدقاء من يترك المداهنة فيخبر بالعيب. وقد كان السلف يحبون من ينبههم على عيوبهم، ونحن الآن في الغالب أبغض الناس إلينا من يعرفنا عيوبنا، وهذا دليل على ضعف الإيمان). [منهاج القاصدين]. ويبدو أن عدم حب الناصحين سمة على مستوى البشر والمؤسسات والكيانات والأمم، لكن تفاقم هذا الكره للنصح أصابنا بأزمات مزمنة وصرنا نعيش بين أزمتين رئيسيتين، بين مريض لا يدري أنه مريض، وبالتالي لا يريد أن يسمع لنصح الطبيب، وبين معافى لا يرغب في انتشال المريض من مرضه. الأول: لا يعلم ويتصرف كالأصحاء والمرض يسري في بدنه ويحمله للهلكة، والثاني: يعلم لكنه يتكاسل أن يعمل بما يمليه عليه علمه. الأول: لا يعبأ بالثاني، والثاني: يترقب الأول! ولا أحد يريد أن يغير قواعد تلك المنظومة المشئومة، ولا أن يشق مسارا آخر في الإصلاح! أو يكسر هذا الجمود الضارب في أعماق الأزمات .. في جدلية أشبه ما تكون بالهزلية التي لا تنتهي .. ويبقى السؤال: أي فارس يجسر بصهوة جواده هذه الهوة؟! أم سننتظر حتى يدفع الأول والثاني الثمن غاليا، وبعد فوات الأوان ربما يقتنع الأول أنه في محنة حقيقية، وينتفض الثاني لينتشل الأول! ولكن هيهات النجاة .. تلك أزمة أمتنا الكبرى!