قراءة في كتاب أبو القاسم القالمي كاتب الدولة الموحدية * في البحث عن الهوية المغاربية..* الجزء الأول* بقلم: فوزي حساينية *
في الجزائر اليوم عدد من مشاهير المؤرخين والأسماء اللامعة في مجال الدراسات التاريخية والفكرية الذين قدموا إسهامات رائعة في إغناء الثقافة والفكر وإنارة الطريق للأجيال القادمة فأبو القاسم سعد الله وموسى لقبال ومولاي بلهميسي وناصر الدين سعيدوني رحمهم الله ومحمد العربي الزبيري وبشير شنيتي ومحمد العربي ولد خليفة أسماء لها حضورها القوي وطابعها المتميز في الكتابة والتأصيل وتعميق وعينا بجذورنا الضاربة في أعماق التاريخ هم رجال كتبوا الكثير ولا يزالون يبحثون ويكتبون بإرادة وعزيمة توحي بالثقة في المستقبل والقدرة على التعامل مع تحدياته المختلفة. وإن من أبسط الواجب الذي نعتقد أنه من الضروري النهوض به في هذا الصدد هو أن نقرأ مؤلفاتهم ونناقش أفكارهم ونحث أكبر عدد ممكن من الناس على قراءتها وفي هذا السياق أريد أن أقدم للقارئ كتابا للدكتور إسماعيل سامعي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة. الكتاب يتناول حياة وأعمال أبي القاسم عبد الرحمن القالمي الذي كان رئيس ديوان الإنشاء في دولة الموحدين ومنصب رئيس ديوان الإنشاء يُشَبهه الباحث بحق بمنصب رئيس الوزراء أو الأمين العام للرئاسة في عصرنا أي أننا لو افترضنا أن المغرب العربي اليوم دولة واحدة كما كان في عهد أجدادنا الموحدين وأن أبا القاسم عبد الرحمن القالمي من رجال عصرنا الراهن فإنه بهذه المثابة سيكون رئيس الوزراء في دولة المغرب العربي الكبير أو الأمين العام للرئاسة في دولة اسمها الولاياتالمتحدة المغاربية ولنا عندئذ أن نتصور كم ستكون أهمية وخطورة هذا الرجل ومدى الاهتمام الذي سيحظى به من قبل وسائل الإعلام المحلية والعالمية والأضواء التي ستسلط عليه والناس الذين سيتهافتون على التقرب منه والتعرف عليه. ولكن المغرب العربي اليوم ليس موحدا بل هو يعيش تجزئة ربما هي الأسوأ في تاريخه كما أن أبا القاسم عبد الرحمن القالمي ليس موجودا اليوم فقد غاب عن مسرح الأحداث منذ عدة قرون ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي نحن بصدد قراءته. يخبرنا الباحث في مستهل كتابه بحقيقة مفزعة وهي أن المصادر التاريخية باستثناء ما ورد في كتاب (افتتاح الدعوة) للنعمان بن محمد القاضي المتوفي سنة 363ه -973 م لا تكاد تذكر شيئا عن قالمة على مدى تسعة قرون كاملة! فهل يتعلق الأمر إذن بالبحث عن مدينة أو حضارة مندثرة !؟ أم أن المنطقة لم تقدم ما يمكن أن يسجله التاريخ ويخلدها به ؟ الواقع أنك توشك أمام هذه الحقيقة المفزعة أن تعتقد أنه لا فائدة أصلا من قراءة الكتاب فما أهمية القراءة عن منطقة غابت عن مسرح التاريخ تسعة قرون كاملة ! في وقت كانت مدن ومناطق كثيرة من حولها تساهم بقوة في صنع التاريخ وبناء الحضارة مثل عنابة وقسنطينة وسطيف لكن الأستاذ الباحث باستنطاقه المبدع للتاريخ ومحاولته بل وإصراره على تكوين صورة واضحة عن مراحل وفترات تاريخية تكاد تكون مجهولة في أغلب جوانبها وبطريقته الذكية في طرح الأسئلة يغذي في نفسك الفضول ويدفعك إلى مواصلة القراءة ولكن ماهي قالمة؟ أقبيلة هي أم مدينة؟ يذكر الباحث أن الجغرافيين العرب مثل المسعودي( ت 346 ه) وياقوت الحموي(ت626ه) وابن خرداذبة(ت280ه ) تحدثوا عن قالمة كقبيلة بربرية ولكن وحده الإدريسي انفرد بذكرها كمدينة وقد تكون كلمة قالمة في أصلها اسم لقبيلة ثم جرى إعطاؤه للمدينة أو للمنطقة ككل فتكون قالمة في فترة تاريخية أولى قبيلة وفي الفترات اللاحقة مدينة وهو أمر شهدته مدن ومناطق عديدة. فصدى التاريخ في إطار العهد الإسلامي تردد بمنطقة قالمة في أواخر القرن الثالث الهجري أي مع بداية العهد الفاطمي الذي أصبحت قالمة من الموالين له (صفحة 07) بالإضافة إلى مدينة ثانية اسمها (تيفاش) ومدينة ثالثة يوردها الدكتور سامعي تحت اسم (جيش) ووردت لدى الدكتور موسى لقبال باسم (تيجس) قرب سوق أهراس اليوم ويبدو أن هذه المدن الثلاث كانت تشكل مثلث الأحداث التاريخية بالمنطقة في تلك الفترة المبكرة نسبيا من العهد الإسلامي بالمغرب العربي الكبير وبعد أن تصمت المصادر التاريخية عن ذكر قالمة مدة طويلة نجد أن صدى التاريخ بالمنطقة لا يتردد مرة أخرى إلا مع بداية العهد الموحدي الذي ظهر فيه أبو القاسم عبد الرحمن القالمي فما هي الظروف التاريخية التي ظهرت فيها هذه الشخصية ؟. الظروف التاريخية التي ظهر فيها أبو القاسم عبد الرحمن القالمي: يقول الأستاذ الباحث: (من المعلوم أن الفترة التي امتدت بين الفتح الأول لبلاد المغرب الإسلامي سنة 21ه حتى قيام الدولة المرابطية في القرن الخامس الهجري كانت فترة بحث عن الذات أو عن الهوية والشخصية في إطار جديد...) وبهذه القولة نجد أن الأستاذ الباحث يتبنى المعنى الديناميكي للهوية إذ هو لا يتعامل مع الهوية باعتبارها معطى ثابتا جامدا في التاريخ بل باعتبارها صيرورة متجددة تتحدد وفق قواعد الاجتماع ومعطيات التاريخ وتحولاته الكبرى ولذلك فهي تحتاج للوصول لتحقيق ذاتها إلى فترات زمنية طويلة لكي تأخذ أبعادها اللازمة وسندرك أهمية هذه الفكرة بعد قليل. ويواصل قوله: (أن هذه المرحلة أي مرحلة البحث عن الذات والشخصية في إطار جديد انتهت إلى تطورين هما: التطور الأول: (قيام دويلات أو كيانات سياسية مغربية إسلامية تجاوزت نسبيا عصبية القبيلة لكن قادتها كانوا من العناصر المشرقية أو المغربية وكانت إما تابعة للخلافة في بغداد كالأغالبة وإما مذهبية كالرستميين الإباضيين والمدرارية الصفرية والإدريسية العلوية أو مستقلة كبني أمية في الأندلس....). وهنا من الضروري أن نقف لحظة لنتساءل لماذا يعتبر الدكتور سامعي أن الدولة الرستمية والإدريسية والأغلبية كانت مجرد دويلات ؟ ماهو المعيار الذي على أساسه نفرق بين الدولة والدويلة ؟ فالمصادر الحديثة تتكلم عادة عن الدول الرستمية والأغلبية والإدريسية وليس عن الدويلات! وتاريخ هذه الدول نفسه ينفي عنها صفة الدويلة فالأغالبة مثلا تمكنوا من فتح جزيرة صقلية سنة 214ه بعد حملة بحرية كبرى ولا يمكن لمجرد دويلة أن تضطلع بها والرستميون حتى بعد سقوط دولتهم على يد الفاطميين سنة 296ه ذهبوا إلى بني ورجلان وأسسوا من هناك ما يسميه المؤرخون بالدور الثاني للدولة الرستمية الذي امتدت خلاله إلى غاية مدينة (وينا) ثاني أكبر مدينة في غانا اليوم ! وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يمكن في حالة واحدة فقط الحديث عن الدويلات الرستمية والأغلبية والإدريسية وذلك إذا ألقينا عليها نظرة وهي في السنوات الأخيرة من عمرها التاريخي وهو أمر ينطبق كقاعدة عامة على كثير من الدول التي تعيش لحظاتها التي تسبق خروجها النهائي من التاريخ. التطور الثاني: وقد عبر عنه الأستاذ بقوله: (ثم شهد المغرب محاولتين لتوحيده أو تأسيس دولة كبرى فيه من طرف الفاطميين ثم المرابطين لكن المحاولتين لم تنجحا النجاح الكامل لسياسة الأولى ومذهبها وطموحها المشرقي وللطابع السياسي في الثانية خاصة سيطرة الفقهاء وتوجيههم لنظامها) وإذا كان من الواضح جدا أن الدولة المرابطية لم تنجح في توحيد المغرب العربي إذ أنهم توقفوا بفتوحاتهم شرقا عند حدود بجاية الحمادية فسلطتهم لم تشمل كامل جغرافية المنطقة المغاربية إذا كان هذا واضحا تماما بالنسبة لدولة المرابطين العتيدة ما الذي يجعل الوحدة المغاربية التي بناها الفاطميون غير مكتملة النجاح ؟ وماهو مقياس النجاح الكامل في هذا الصدد ؟ وبغض النظر عن أي إجابة ممكنة نجد هنا أن ماعبر عنه الأستاذ إسماعيل سامعي بالنجاح غير المكتمل للوحدة المغاربية الفاطمية عبر عنه المرحوم الدكتور موسى لقبال ب (النجاح المؤقت) وتحدث الدكتور مرمول محمد الصالح في كتابه المعنون ب(السياسة الداخلية للخلافة الفاطمية في بلاد المغرب الإسلامي) عن: (أن الفاطميين بسطوا نفوذهم على كامل بلاد المغرب العربي تقريبا...) وهكذا بين (النجاح غير الكامل) للأستاذ سامعي و(النجاح المؤقت) للأستاذ موسى لقبال وعبارة (النفوذ المبسوط على كامل بلاد المغرب تقريبا) للأستاذ مرمول محمد الصالح أجد من الضروري أن أتساءل لماذا يتميز المؤرخون الجزائريون بالقسوة والشدة في حكمهم وتقييمهم لدور الفاطميين في تجربتهم الرائدة لتوحيد المغرب العربي ؟ وهل كان من الممكن بناء هذه الوحدة وفي تلك القرون البعيدة بوسائل مثالية ترضي مشاعرنا الديموقراطية كما نريدها نحن اليوم ؟ ولماذا لا نخضع هذه التجربة الوحدوية الملهمة ل (مبدأ المشروعيات المتتالية) والذي يعني ببساطة أن علينا ندرس العصور الماضية في إطار الظروف السائدة وقتها وأن نلمس جوانب الحياة الماضية في كل صورها وأن لا نقّيم أو نحكم على الماضي بمنظور الحاضر لذلك فتقييمنا لتجربة الفاطميين يجب أن يتم في إطار الظروف الإقليمية والدولية السائدة في وقتهم وبالمقارنة مع التحديات السياسية المعاصرة لهم خاصة وأن هناك تجارب أقل شأنا من الحركة الوحدوية للفاطميين أعطيت تقييما أكثر تفهما وتعاطفا وخصوصا عندما يتعلق الأمر بإرادة توظيف التاريخ وفق مبدأ الانتخاب والاختيار. ومهما يكن وبالعودة إلى المفهوم الديناميكي للهوية الذي أشرنا إليه سابقا يصبح من الممكن أن نلاحظ أن الوحدة التي حققها الفاطميون ولعبت فيها منطقة قالمة دورا لايزال يحتاج إلى المزيد من البحث والدراسة كانت إنجازا تاريخيا ضخما وخطوة عملاقة على طريق تعزيز وترسيخ الهوية المغاربية في إطارها الجديد بتعبير الباحث ويتحصل لنا من ذلك كله أن هناك هوية مغاربية احتاجت إلى قرون لكي تتبلور وتأخذ أبعادها المختلفة وهذه الهوية لا يمكن إلا أن تكون مغاربية كما كشفت عن ذلك تجربة أجدادنا الموحدين التي ساهم أبو القاسم عبد الرحمن القالمي في تعزيز انتصاراتها ومنجزاتها وهي لن تكون مغاربية بحق إلا في إطار الوحدة المغاربية الشاملة. وإذا كانت التجزئة السياسية التي يعيشها المغرب العربي اليوم لا تلغي الهوية المغاربية فإنه من المؤكد أن تجسيد الوحدة سيضفي على الهوية المغاربية عمقا وبعدا ومشروعية لا تتمتع بها اليوم. وإذا أردنا أن نسير قليلا إلى عمق الأشياء فلا بد أن نشير إلى أن الدكتور سامعي اعتبر أن (الطموح المشرقي للفاطميين) من الأسباب الجوهرية التي تفسر عدم تمكنهم من تحقيق النجاح الكامل في توحيد المغرب العربي وعبارة الطموح المشرقي هذه قد لا يعيرها البعض حقها من الاهتمام ولكنها في الواقع جديرة بأقصى العناية والتحليل لأن توجه الخلافة الفاطمية وانتقالها إلى المشرق العربي بدل العمل على تدعيم وتأكيد وجودها وهويتها المغاربية قد فوت على الفاطميين فرصة تاريخية مميزة لبناء وحكم مغرب عربي موحد وقوى مدة أطول مما فعلوا إذا كان هذا صحيحا إلا أننا لا نتفق أبدا مع الدكتور إسماعيل سامعي في حكمه على التجربة الفاطمية في دورها المغربي بأنها لم تنجح نجاحا كاملا في بناء المغرب الموحد ولكنني أعتبر أن التوجه المشرقي للفاطميين هو السبب الرئيسي الذي حال دون استمرار هذه التجربة الوحدوية الرائدة مدة أطول وأعمق على مسرح التاريخ. بعد الفاطميين يحدثنا الأستاذ الباحث عن ظهور الدولة الموحدية بقيادة عبد المؤمن بن علي الذي استطاع أن يزيل المرابطين والحماديين والزيريين وهو ما يعني تاريخيا وسوسيولوجيا وسياسيا نقل المجتمع المغاربي من وضعية التجزئة إلى وضعية الوحدة ومن حالة الاستقرار الستاتيكي إلى حالة الاستقرار الديناميكي الذي بلغ المغرب العربي بفضله ذروة العطاء والقوة والإبداع الحضاري. ثم يقول الباحث في تعليقه على ظهور الدولة الموحدية: (إن هذه الظروف التي حققت للمغاربة توحيدا ولو نسبيا هي التي هزت الجميع لاسيما العلماء والمفكرين فنذروا أنفسهم لخدمة هذه الدولة الموحدة وإرساء قواعدها وتعبيد معالمها هي التي ظهر فيها مترجمنا أبو القاسم عبد الرحمن القالمي). ومرة أخرى أحب أن ألاحظ أن الدكتور سامعي وبعد أن يسجل بنفسه أن الموحدين وضعوا تحت لواء دولتهم المغرب العربي من مراكش جنوبا إلى برقة شرقا (فضلا عن الأندلس) يعود هنا فيحكم على هذه التجربة الوحدوية النوعية الفريدة الباهرة بأنها حققت (توحيدا نسبيا) ! والسؤال هنا لماذا يجب أن ننظر إلى الوحدة المغاربية الموحدية على أنها كانت نسبية !؟ رغم أنها شملت المغرب العربي كله من برقة شرقا إلى مراكش جنوبا ثم هل هناك نموذج كامل للوحدة نستطيع أن نقيس به باقي التجارب الوحدوية وعلى نتيجة هذا القياس نحكم بنسبية هذه التجربة أو كمالها ؟ علما وأن تجربة أجدادنا الموحدين هي مصدر إلهامنا الأول والأعظم عندما يتعلق الأمر بالتفكير في مستقبل ووحدة المغرب العربي فهل يمكن أن يكون مصدر الإلهام الأول نسبيا ! ؟