بقلم: مدى الفاتح* الشخصيات التي استوقفتني في رواية الأسود يليق بك لأحلام مستغانمي كانت شخصية الأم التي جعلتها الكاتبة مزيجاً من الدماء السورية والجزائرية. الأم التي شهدت مأساة حماة السورية 82 التي تم تدميرها بمن فيها بحجة ملاحقة المعارضين والإرهابيين هي الأم ذاتها التي ستشهد لاحقاً في الجزائر سنوات الإرهاب المروعة وظهور جماعات متخصصة لا في قتل غير المؤمنين لكن في قتل أولئك الذين هم بنظرها غير مؤمنين بما يكفي. أحد الأفكار المتكررة في أدب مستغانمي كانت ذلك الربط بين الإرهاب السلطوي الذي تقوده أنظمة مهووسة بالحس الأمني وإرهاب الجماعات السوداء المهووسة من جانب آخر بضرورة القضاء على كل مخالف. أما شخصية الأم فقد اكتسبت أهميتها من كونها تمثل الجيل الذي عاصر الخيبات الكبيرة والنكسات والفوضى التي لم تخلق شيئاً. تصفها الرواية: أمها التي وجدت في هم العراق ما ينسيها همها صارت تقضي جل وقتها أمام الفضائيات الإخبارية لمتابعة مسلسل الغزو الأمريكي وسقوط بغداد . لم تكن هذه التفاصيل الصغيرة التي ستتلوها تفاصيل أخرى كسجن أبو غريب ووقائع تدمير العراق مجرد استطراد عفوي أو ديكور لتزيين العمل الروائي بل كانت هذه التراجيديا الواقعية جزءاً لا يتجزأ من السياق السردي. الكتاب رغم ذلك لم يصنف نقدياً كرواية سياسية حيث اكتفى الآلاف بقراءته كرواية عاطفية تحكي قصة حب معقدة ومتضادة مع واقع الحياة العربية. التصنيف أمر يعود للقارئ أما الكاتبة المنحازة وما تزال للفكر القومي الكلاسيكي التي لا تضيع أي فرصة لقاء مع معجبيها أو أي احتفال بتوقيع أحد كتبها بدون الحديث عن المآسي العربية أو عن الشهداء في الجزائر وفلسطين هذه الكاتبة لم تكن لتنسى خلال ترتيبها للرواية أن تقدم لقارئها جرعة من المرارة المستندة إلى واقع يفوق بألمه وحزنه كل خيال. تتساءل على سبيل المثال بعد لحظة إحباط عاطفي: أقدرها أن تلجأ لطاغية كلما هربت من آخر كالشعوب التي تستبدل بالطغاة الغزاة؟ (...) إنها في النهاية كالشعوب العربية حتى وهي تطمح للتحرر تحن لجلادها . تحايل أدبي ذكي أدبياً تكون قصة الحب محكمة أكثر حين يتم تطعيمها بقدر من الحزن. هذا ما تعلمناه من شكسبير الذي كان بارعاً في مزج الملهاة بالمأساة. هكذا وبالتعريج على أحداث مؤلمة في التاريخ العربي المعاصر تكون مستغانمي قد خدمت بناءها الفني واستطاعت التأكيد على مواقفها والتزامها في الوقت ذاته. هو تحايل ذكي لكنه ليس سهلاً حيث يجب ألا يبدو أي شيء مقحماً في العمل الأدبي أو نشازاً في البناء السردي فالقارئ لا يحب الوعظ المباشر كما أنه لم يلجأ للرواية سعياً وراء التحليل السياسي. باختصار فإن المسألة تبدو أشبه بالسلاح ذي الحدين الذي قد يكون ناجحاً حيث يتقوى به البناء الفني أو قد يكون بالمقابل سبباً في جعل ذلك العمل مضجراً ومملاً إذا تم الإفراط في استخدامه. على عكس مي زيادة التي عاشت ظروفاً مختلفة سلكت مستغانمي منذ البداية الطريق الأصعب فكانت تختار عناوين كتبها حيث تبدو صادمة وغير مألوفة وكأنها تقول إنها لا تكتب فقط كالرجال بل أكثر من ذلك تكتب ما قد يعجز الرجال عن كتابته فكان من عناوينها المبكرة: كتابة في لحظة عري و ذاكرة الجسد التي لقيت رواجاً استثنائياً خاصة بعد ثناء نزار قباني عليها وحصولها على جائزة نجيب محفوظ للرواية. ذاكرة الجسد كانت وعلى عكس ما يشير اسمها أكبر من مجرد وصف لعاطفة أو جسد. كانت نوعاً من إعادة قراءة التاريخ الجزائري بعيون جديدة. السؤال هنا هو: لماذا تكون الرواية العاطفية هي الأكثر قابلية لحمل رسائل سياسية؟ على بالي الآن أسماء تأثرنا بها أكثر من غيرها في مراهقتنا مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وغيرهم وقد كانت جميعها تحمل أفكار صاحبها السياسية والفلسفية وإن لم يكن ذلك واضحاً كفاية لنا في تلك السن حيث كنا نتوقف فقط حينها عند الجوانب العاطفية من القصة. رأيي هنا أن القارئ لاسيما المراهق يقرأ هذه الأعمال بقلبه لا بعقله ويكفي رسم الفتاة الحسناء في الغلاف واسم الكتاب الرومانسي لإشغاله بالصراع العاطفي الداخلي في الرواية عن المضامين الأخرى بل أن الكثيرين ربما وجدوا في الحديث عن مضامين سياسية لقصة من قصص الحب الشهيرة شططاً وغلواً. مدارس الكبار بالنسبة إليّ كان كل من محفوظ والسباعي وعبد القدوس ينتمون إلى مدرسة واحدة أو إلى ثلاث مدارس متقاربة ومتفقة الرؤى والأهداف. لكن ما لم أستطع التوصل إليه إلا بعد سنوات وأنا أعيد قراءة تلك الروايات التي سميناها خطأ عاطفية هو أن هدف هؤلاء الكتاب كان أكبر بكثير من مجرد مداعبة خيالات المراهقين أو مجرد الإمتاع على طريقة نظرية الفن لمجرد الفن بالإضافة إلى نجيب محفوظ الذي أتاح فوزه بجائزة نوبل للنقاد والباحثين فرصة سبر قصصه وإعادة اكتشاف مضامينها السياسية والفلسفية نعلم اليوم أن إحسان الصحافي الكبير في وقته كان ينقل أفكاره عن طريق القصص أكثر مما ينقلها عن طريق المقالات وقد كانت القصص دائماً والأعمال الدرامية أكثر فعالية في تمرير الرسائل من المقالات المباشرة أو الخطب الوعظية وهو ما سيفعله يوسف السباعي بنجاح أيضاً. الشبه بين هذا الثلاثي كبير فجميعهم امتلك علاقة جيدة مع السلطة سواء كان ذلك عن طريق التماهي الكامل معها أو كان عن طريق التصالح والالتزام الصارم بما تضعه من حدود وهو ما جعلهم يحصلون على حرية شبه كاملة للكتابة والنشر بل أكثر من ذلك جعلهم يستفيدون من الترويج الرسمي لمؤلفاتهم بشكل لم يتح إلا للقليل غيرهم مما أوصلهم للجمهور بقوة عبر الطبعات المختلفة ثم عبر السينما والتلفزيون اللتين بدأ الناس يتحلقون حولهما بكثافة. لقد قدمت القصة ذات المظهر العاطفي واللغة البسيطة دعماً مهماً للسلطات المتعاقبة فسوقت بنجاح للرئيس عبد الناصر مضفية عليه هالة قدسية جعلته يبدو كقائد ملهم وشجاع. هالة استطاعت أن تبرر ل زعيم حتى أخطاءه الكبرى على اعتبار أنه قد فعل ما يستطيع وبذل كل جهد ممكن. قصة رد قلبي الرومانسية التي نجحت كرواية ليوسف السباعي قبل أن تتحول إلى عمل سينمائي ثم تلفزيوني كانت إحدى تلك القصص التي ركزت على مفهوم المساواة على الطريقة الناصرية بين مكونات الشعب من خلال قصة الحب بين الفتاة ذات الأصل البرجوازي وأحد البسطاء الذين سيتساوون مع عائلتها في المجد بعد الثورة. من خلال التعاطف مع قصة الشابين العاشقين سوف تخلق أجواء الحكاية تعاطفاً موازياً مع انقلاب الضباط الأحرار وما سيعرف بثورة 52 وتعاطفاً أكبر مع القرارات الاشتراكية من سحب وتقليص للألقاب والممتلكات الخاصة. كيف لا وهو السبيل الوحيد الذي يمكن بموجبه أن يظفر الحبيب بحبيبته! الروائيون سيختلفون من ناحية استخدامهم للسياسة أو استخدام السياسة لهم لكن وحدهم المبدعون الحقيقيون سوف يعبرون عما يؤمنون به بغض النظر عما يتعرضون له من ضغوط وما أقلهم..!