عطاف يشرع في زيارة رسمية إلى تونس    منصوري تلتقي بنائبة وزيرة العلاقات الدولية لجنوب إفريقيا    إرهابي يسلم نفسه وتوقيف 9 عناصر دعم للجماعات الإرهابية    استشهاد 30 مواطنا بينهم أطفال ونساء بحي الشجاعية    استرجاع 1200 متر من الكوابل النحاسية المسروقة ببوشقوف    جيدو/البطولة العربية للأشبال: المنتخب الجزائري يتوج باللقب حسب الفرق    منظومة مراقبة إلكتروبصرية ورادارات لتأمين الحدود    الجزائر ثابتة على مبادئها ومواقفها إزاء القضايا العادلة    الجزائر تتأسف لموقف واشنطن من قضية الصحراء الغربية    الجزائر كانت ولا تزال نصيرا للقضايا العادلة    رئيس الجمهورية يعزّي في وفاة المقدم جولم لخضر    اتفاقية بين الجزائر وقطر للتعاون في خدمات النّقل الجوي    السيد عطاف يجري محادثات مع نظيره التونسي    الفرنسيون يهاجمون بن ناصر بقسوة    بلايلي تحت صدمة إقصاء الترجي من دوري الأبطال    مازة يكشف سرَّ توهج هيرتا برلين    الجزائر والصومال تطلبان عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن    هاجس الحساسية.. هذا هو الحل    مساعٍ للتعريف بمخزون "مادور" و"خميسة"    حملة تحسيسية وطنية ضد تعاطي المنشطات    عرض جوانب خفية من أعظم ثورة    ملتقى وطني للنحت احتفاءً بالفنان محمد بوكرش    بهجة الحياة مع إطلالة مواسم الربيع    القرنطيطة أفضل وجبات أكل الشوارع في العالم    مخطط التهجير وتدمير حلّ الدولتين    لقاء علمي حول حفظ وصيانة المخطوطات    الحضارات الإنسانية لا تعادي الثقافات النبيلة    قناة التلفزيون "آرتي" تخصص روبورتاجا لكفاح الشعب الصحراوي من أجل الاستقلال    أحزاب سياسية تواصل استنكارها لموقف الحكومة الانتقالية في مالي ضد الجزائر    زيتوني يترأس اجتماعا تنسيقيا لمناقشة برنامج عمل المخبر الوطني للتجارب    الطغمة الانقلابية بمالي افتعلت الأزمة مع الجزائر    مطالب بقطع علاقات النظام المخزني مع الكيان الصهيوني ورفض للتطبيع الأكاديمي    صحة : اجتماع تنسيقي لدراسة القوانين والأنظمة التعويضية لموظفي القطاع    ندوة حول الاحتراف في كرة القدم: السيد صادي يجدد حرصه على مرافقة الأندية الجزائرية    بنك الفلاحة والتنمية الريفية : أكثر من 200 مليار دج تمويلات استثمارية في 2024    الرابطة الثانية هواة: المنعرج الأخير من أجل الصعود في الشرق, و نجم بن عكنون لتعميق الفارق في الغرب    جامعة التكوين المتواصل تنظم الدورة التكوينية الثانية في المقاولاتية    "زمالة الأمير عبد القادر": أكبر سفينة صيد بحرية جزائرية محلية الصنع تنزل المياه من ميناء المرسى بالشلف    عرض آفاق عصرنة وتطوير بلديات سيدي أمحمد في اجتماع مع والي ولاية الجزائر    الطبعة ال27 للصالون الدولي للصحة "سيمام" تنطلق بوهران بمشاركة 600 شركة من 38 دولة    حوادث المرور: وفاة 6 أشخاص وجرح أكثر من 270 آخرين خلال ال 24 ساعة الأخيرة    وفاة ضابط وإصابة 3 أعوان للحماية المدنية بجروح    التأمينات تحقق رقم أعمال يزيد عن 181 مليار دج في 2024    الديوان يسخر مراكز للتكوين والتدريب لفائدة الحجاج    دعم تام لمشروع تطوير إنتاج الليثيوم    تقنية الجيل الخامس لجعل الجزائر محورا إقليميا في تكنولوجيا المعلومات    الفيفا تنظم ندوة حول بالجزائر    ورشة لتقييم نظام الأدوية واللقاحات    الجزائر محمية باللّه    اليوم العربي للمخطوط: لقاء علمي بالجزائر العاصمة حول حفظ وصيانة المخطوطات    فنزويلا "ضيف شرف" الطبعة 14 للمهرجان الثقافي الدولي للموسيقي السيمفونية    سيدي بلعباس..إبراز أهمية دور العلوم الإنسانية والاجتماعية في تطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي    حج 2025 : تسخير مراكز للتكوين والتدريب لفائدة الحجاج عبر مختلف بلديات ودوائر الوطن    مختصون وباحثون جامعيون يؤكدون أهمية رقمنة المخطوطات في الحفاظ على الذاكرة الوطنية    الشباب يستعيد الوصافة    اللهم نسألك الثبات بعد رمضان    لقد كان وما زال لكل زمان عادُها..    أعيادنا بين العادة والعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إحياء الأرض الموات
نشر في أخبار اليوم يوم 21 - 02 - 2016


راغب السرجاني
من أبرز معالم الدين الإسلامي أنه دين يجمع بين الاهتمام بالدنيا مع الآخرة ويجمع بين طلب عمارة الأرض وطلب الجنة في تناسق عجيب يستحيل أن يوجد في أي قانون وضعي أو شرع محرف.. بل إن قضية إعمار الأرض تأتي كقضية أساسية من قضايا الدين وكهدف رئيسي من أهداف خلق الإنسان وكسبب مباشر لمعيشة الإنسان على سطح هذا الكوكب الأرض. قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
ومن أبرز لوازم إعمار الأرض (إحياء الأرض الموات).
ومعنى (الأرض الموات) أي: الأرض المتروكة التي لا يُنتفع بها انتفاعًا مُعتدًّا به سواء كان ذلك بسبب انقطاع المياه عنها أو استيلاء المياه أو الأحجار أو الرمال عليها أو طبيعة تربتها أو غير ذلك من الأسباب.
وقد تكون هذه الأرض متروكة ابتداءً وهي الأرض التي لم تعرض لها الحياة من قبل كأكثر البراري والصحاري والبوادي وغير ذلك أو أن تكون قد ماتت بعد حياة وخربت بعد عمران وتحولت من أرض منتجة إلى أرض بور وهو ما يعرف الآن بظاهرة (التصحر).
وتبرز أهمية قضية (إحياء الأرض الموات) بمعنى إعمارها واستصلاحها عندما نراجع معًا خطورة مشكلة (التصحر) في العالم فعلى الصعيد العالمي يتعرض 30 بالمائة من سطح الأرض لخطر التصحر مما يؤثر سلبًا على حياة بليون شخص في العالم والمسألة في تزايد خطير فالعالم يفقد سنويًّا نحو 10 مليون هكتار من الأراضي بسبب التصحر. وهذا التصحر يدفع السكان في هذه المناطق المنكوبة إلى مغادرتها واللجوء إلى البقاع والدول المجاورة. ويكفي أن نعرف أن عدد اللاجئين بسبب التصحر قد بلغ 10 ملايين لاجئ في عام 1988م فقط!! وتتسبَّب مشكلة التصحر في خسارة اقتصادية سنوية تقدر بنحو 42 بليون دولار هذا إضافةً إلى المشاكل الصحية والاجتماعية والسياسية والعسكرية التي تتفاقم نتيجة انتقال هذه الأعداد الهائلة من البشر من بلد إلى بلد.
مشكلة التصحر في العالم الإسلاميومن الجدير بالذكر أن العالم الإسلامي والعرب ليسوا بمنأى عن هذه المشكلة بل إن الكثير من الدول الإسلامية تقع في مقدمة الدول التي تعاني من (التصحر) ويأتي على رأس هذه الدول السودان والصومال وموريتانيا والنيجر ونيجيريا وغيرها. بل إن مشكلة التصحر تمس بعض البلاد الغنية بالماء مثل مصر! ومن العجيب أن نعلم أن مصر تفقد نحو ألف متر من الأراضي الزراعية كل ساعة بسبب التصحر!!
ولعل المتأمل لهذه الأرقام ودلالتها الخطيرة يدرك حجم المشكلة الضخمة التي تصدى لعلاجها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا ويدرك من ثَمَّ عظمة هذا الدين الذي جعله رب العالمين حلاًّ لكل مشكلات العالم بما فيها مشكلة التصحر فضلاً عن غيرها من المشكلات.
كيف شجع الإسلام على إحياء الأرض الموات؟
لقد سلك الإسلام لتحفيز المؤمنين على إحياء الأرض الموات طريقين مهمين ففي البداية -وعلى طريقة الإسلام دومًا- يربط المسلم بالثواب الأخروي (الأبقى) وهي مزية تربوية لا نجدها إلا في هذا الدين العظيم.. أن يشجعك على عمل دنيوي تمامًا بثواب أخروي باق وعظيم!!
روى البخاري عن أنس قال: قال رسول الله: (ما من مسلم يغرس غرْسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة).
كما روى النسائي وابن حبان -وصححه- عن جابر أن رسول الله قال: (من أحيا أرضًا ميتة فله فيها أجر وما أكله العوافي فهو له صدقة).
وروى مسلم عن جابر مرفوعًا: (ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أُكل منه له صدقة وما سُرق منه له صدقة وما أكل السبُع فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يَرْزَؤُهُ أحد إلا كان له صدقة). وفي رواية: (إلى يوم القيامة).
على أن منهج الإسلام في التحفيز على استصلاح الأرض الميتة وإحيائها لم يكتف برصد الثواب الأخروي فقط وإنما تعداه -لأنه منهج من لدن حكيم خبير بطبائع النفس الإنسانية- إلى الفائدة الدنيوية فقد أعطى الشرع لمن يحيي أرضًا مواتًا حق تملكها ما لم تكن ملكًا لغيره وما دام جادًّا في إحيائها وتثميرها فقد روى سعيد بن زيد أن رسول الله قال: (من أحيا أرضًا ميتة فهي له).
وقال عروة: (إن الأرض أرض الله والعباد عبادٌ له ومن أحيا مواتًا فهو أحق بها جاءنا بهذا عن النبي الذين جاءوا بالصلوات عنه). أي: أن الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- الذين علمونا الصلاة نقلاً عن النبي هم الذين نقلوا عنه أحقية من أحيا أرضًا بامتلاكها. ولاحظْ كيف ربط التابعي الجليل عروة بن الزبير -رحمه الله- بين إحياء الأرض الموات والصلاة ليشعر السامع بأنها جزء لا يتجزأ من هذا الدين.
من هنا فَقِه الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- قيمة عمارة الأرض وإحياء مواتها.. روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء أن رجلاً مر به وهو يغرس غرسًا بدمشق فقال له: أتغرس هذا وأنت شيخٌ كبير وهذه لا تطعم إلا في كذا وكذا عام؟! فقال: (وما عليَّ أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري!!).
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يساعد الرعية في غرس الأشجار قال يومًا لخزيمة بن ثابت: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له: أنا شيخٌ كبير أموت غدًا. فقال عمر: أعزم عليك لتغرسنها. وقام عمر وغرس الأرض مع صاحبها.
وقد كان من سياسة النبي وخلفائه الراشدين الإقطاع من الأراضي البور لبعض الرجال الذين قَدّموا خدماتِ جليلة للدولة الإسلامية فهي من جهة مكافأة لهم ومن جهة أخرى تشجيع على استصلاح الأرض وإعمارها. ونتج عن ذلك أيضًا نزع الأرض الموهوبة ممن لا يعمرها وإنما يقطع الحاكم من أجل المصلحة فإذا لم تتحقق المصلحة -بأن لم يعمرها من أقطعت له ولم يستثمرها- فإنها تنتزع منه.
يروي أبو عبيدة في (الأموال) عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه أن رسول الله أقطعه (العقيق) أجمع فلما كان زمان عمر قال لبلال: (إن رسول الله لم يقطعك لتحتجره عن الناس وإنما أقطعك لتعمل فخذ منها ما قدرت على عمارته ورُدّ الباقي).
ويشترط لاعتبار الأرض مواتًا أن تكون بعيدة عن العمران حتى لا تكون مرفقًا من مرافقه ولا يُتَوقع أن تكون من مرافقه. ويُرجع إلى العرف في معرفة مدى البعد عن العمران كما يُرجع إلى القوانين التي يسنها الحاكم لحفظ المصلحة العامة.
شروط الإحياء
وقد اتفق العلماء على أن إحياء الأرض سبب في ملكيتها ولكنهم اختلفوا في اشتراط إذن الحاكم لهذا التملك فقرر أبو حنيفة -رحمه الله- أنه لا بد من إذن الحاكم وقراره لتعطى ملكية الأرض لمن أحياها. أما الإمام مالك -رحمه الله- فقد فرق بين الأراضي المجاورة للعمران والأراضي البعيدة عنه فإن كانت مجاورة فلا بد فيها من إذن الحاكم أما إن كانت بعيدة فلا يشترط فيها إذنه وتصبح ملكًا لمن أحياها. أما بالنسبة للإمام الشافعي وابن حنبل -رحمهما الله- فقد قررا أن إذن الولي ليس ضروريًّا لإحياء الأرض وتملكها وذلك تشجيعًا على استصلاح الأراضي.
ولا يخفى على أحد أن على كل دولة أن تقر المبدأ الفقهي الذي تراه متناسبًا مع ظروف الزمان والمكان. وتبقى حقيقة واضحة وهي: حث الشرع الإسلامي الحنيف للمسلمين على استصلاح وإحياء الأرض البور الميتة.. بل إن عمر بن الخطاب لم يجعل تملك الأرض البور حقًّا مطلقًا لمن ادَّعى إحياءها إلا أن يثبت عمليًّا أنه يستصلحها فعلاً لذلك فقد قرر أن المسلم لا يحيط أرضًا بسياج إلا إذا كان قادرًا على استصلاحها ثم إنه يُعطى ثلاث سنوات كمهلة لاستصلاحها فإن فشل في ذلك طوال هذه السنوات الثلاث أُخذت الأرض منه وأعطيت لمن يقدر على استصلاحها.
إننا الآن بإزاء ميراث عظيم من هدي السنة المطهرة وفعل الصحابة الكرام واجتهاد العلماء الأجلاء.. ميراث عظيم يوضح كيف شكَّل الإسلام بمنهجه الفريد وجدانَ وسلوك خير أمة أخرجت للناس فعمَّرت الحياة كما أَمَرَها ربها حينًا طويلاً من الدهر وارتبط التعمير في نفوس أبنائها بالآخرة قبل أن ينشأ على تراب الأرض فصار المسلم لا يبالي بعوائق الفشل والإحباط وضياع الفرص بل يمضي محطِّمًا الحواجز التي قد تؤخره عن مهمته العظمى التي استخلفه رب العالمين على حسن أدائها مهمة إحياء موات الأرض واستصلاحها.
وأخيرًا فإننا نهدي للعالم أجمع حديثًا لرسول الله يوضح فيه مبدأً راقيًا من مبادئ إعمار الأرض ويدفع المؤمنين دفعًا إلى استصلاح الأرض مهما كانت الظروف.. إنه الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (إذا قامت القيامة وبيدِ أحدكم فَسِيلة فإن استطاع ألاَّ يقوم حتى يغرسها فليفعل).
إنها أعلى درجات الإيجابية وأصدق مظاهر الصدق مع الله وابتغاء مثوبته.
لقد تعلم المسلم أن يتوجه بعمله لربه الحي الذي لا يموت حتى وإن فَنِي أهل الأرض وهو معهم بل حتى وإن انتهت الحياة مِن على الأرض بالكلية فماذا عليه هو؟!! إنه قد استودع عملَه وإحياءَه للأرض عند الحي القيوم الذي لا يُضيع أجر من أحسن عملاً أينما كان هذا العمل وفي أي زمان كان.
نسأل الله أن يُعِزَّ أمتنا ويردها إلى محاسن الإسلام وروائع حضارته من جديد فإن في الإسلام سعادة الأرض لا أقول للمسلمين فحسب وإنما للإنسانية جميعًا. فسبحان الذي أرسل رسولنا رحمةً للعالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.