بقلم: إلياس خوري* حرصت الرقابة العسكرية الإسرائيلية على عدم الكشف عن اسم الجندي الذي ارتكب جريمة قتل الشهيد عبدالفتاح الشريف. الفضيحة في إسرائيل ليست قتل الشاب الفلسطيني الجريح الملقى على الأرض مصاباً بل في الفيديو الذي استطاع ناشط حقوقي فلسطيني يدعى عماد أبو شمسية تصويره للحظة القتل الوحشية. الصورة هي الفضيحة وليس الجريمة. الناشط الحقوقي الفلسطيني الذي صوّر الجريمة مهدد بالقتل وسكان حي تل الرميدة في الخليل حيث يقيم يشعرون بالخوف من تهديدات المستوطنين ويقيمون الحراسات حول حيهم. قتل الشاب الفلسطيني ليس حدثاً فهو تقليد ثابت في الممارسة الإسرائيلية اليومية في الضفة الفلسطينيةالمحتلة فالجيش الإسرائيلي صار جيش المستوطنين وقوته مسخّرة للدفاع عن الهستيريا اليمينية الدينية التي تجتاح إسرائيل وتسمح لها بالتصرف بما يمليه عليها انتفاخها بالقوة وسكرتها بالاحتلال الدائم وشعورها بأن الشعب الفلسطيني بات في هذه اللحظة العربية المنقلبة وحيداً حتى قيادته المفترضة تخلت عن واجبها في صون كرامتها وكرامته. ماذا جرى بالضبط؟ كان عبدالفتاح الشريف ملقى على الأرض جراء إصابته برصاص الجيش الإسرائيلي بعد عملية طعن قام بها مع رفيقه الشهيد رمزي القصراوي لأحد الجنود الإسرائيليين. رمزي استشهد على الفور أما عبدالفتاح فكان على الأرض وفاقداً للوعي جراء إصابته. وصل طاقم طبي تابع لوحدة (كفير) تقدم جندي ممرض من عبدالفتاح لاحظ وجود عماد أبو شمسية حاملاً الكاميراً فأمره بمغادرة المكان وقرر أن أفضل علاج يمكن تقديمه للشاب الفلسطيني الجريح هو قتله فأعدمه على مرأى من جميع الضباط والجنود الموجودين في المكان. المسألة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول هو فعل القتل نفسه أي الممارسة الإجرامية التي تقوم بتصفية الفلسطيني الجريح لأنه ضعيف ويمكن قتله بلا عواقب. وهنا لا جديد هذه هي ممارسات الدولة العبرية منذ تأسيسها. ولقد تحولت هذه الممارسة التي شهدناها في مراحل النكبة الفلسطينية من 1948 إلى 1982 إلى 2002 إلى حروب الإبادة على غزة إلى ممارسة يومية يقوم بها (زعران) الجيش الإسرائيلي في عملية اصطياد يومية للضحايا من الفلسطينيين والفلسطينيات منذ اندلاع الهبّة الفلسطينية. هذا هو الثابت الذي لم يتغير في مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين. فالتطهير العرقي والقتل الجماعي والإذلال المنظم هي سمات الغزو الإسرائيلي. وهذا هو المآل الطبيعي الذي قام على فرضية إحلال شعب مكان شعب آخر. كيف يمكن إقناع الفلاح بترك أرضه وأرض آبائه وأجداده؟ الوسيلة الوحيدة هي العنف بأشكاله المختلفة من المذابح المستمرة إلى إقامة الغيتوات والمعازل إلى الأقفاص والسجون القسم الثاني هو صورة الضحية. هنا تقع اللعبة الصهيونية يجب تغطية الجريمة وتبريرها واعتبارها عملاً أخلاقياً! هذه كانت لعبة المؤسسين. المجرم يلبس ثياب الضحية ويتبنى القيم الكونية عن حقوق الإنسان ويعلن انتماءه إلى العالم الحر يبكي ويتمسح بضمير غربي ميت مرر جرائم هتلر والنازيين وأتى ليتلو فعل ندامته على أنقاض فلسطين. هذه هي الصورة التي يجب أن تعمم وتظهّر. مجازر عام 1948 مرت تحت هذا الغطاء الذي أضيف إليه واقع هجوم جيوش سبع دول عربية على (دولة الناجين من المحرقة النازية)! هكذا اختفت الجريمة ولم يعد أحد معنياً بها القاتل يتنعّج ويبكي والقتيل هو المجرم. نجحت إسرائيل في تغطية جرائمها وفي الظهور على صورة الضحية. أنها عبقرية الجريمة! بن غوريون يأمر بالتطهير العرقي وهو يقرأ بيان إعلان الدولة المفعم ببلاغة الضحية والعالم يصفق. انتصرت الصورة على الحاضر في زمن ما قبل عصر الصورة. ومنعت الضحية من التعبير عن نفسها كضحية. والحق يقال إن هذا المنع لم يكن بفعل القمع اللغوي والثقافي الإسرائيلي والغربي فقط بل كان مسؤولية عربية وفلسطينية أيضاً. إذ احتلت لغة المؤامرة وانتظار انبعاث عربي وشيك مساحة الألم وسحقتها. وهذه حكاية أخرى آن أوان تفكيكها والخلاص من انتفاخها الساذج بالماضي؟ تم حجب الحقيقة قي شكل كامل وفعل الحجب لم يكن مجرد لعبة إعلامية بل كان تعبيراً عن سياق تاريخي جعل من الغزوة الصهيونية لفلسطين آخر موجات الاستيطان الكولونيالي في إفريقيا وآسيا وأكثرها تعقيداً لأنها تربط بين أسطورة (الرسالة التمدينية) والأسطورة الدينية بشكل وثيق. الفيديو الذي التقطته عدسة عماد أبو شمسية ووزعته منظمة (بتسليم) على وسائل الإعلام يعلن تطابق الصورة مع الحاضر. وحكاية هذا التطابق بدأت مع الانتفاضة الأولى عام 1987 حين انتشرت صورة تكسير عظام الأطفال الفلسطينيين التي أمر بها رابين. ومنذ تلك اللحظة وإسرائيل تعيش مخاضات الانزياح في اتجاه تزايد العجز عن فصل الصورة عن الحقيقة إلى أن أوصلها منطق الاحتلال والتحول نحو النيوليبرالية والصعود اليميني إلى السقوط النهائي في الخطاب الديني- القومي الذي يدفع بها إلى التحول إلى دولة فاشية تقيم نظام ابارتهايد متكاملاً وتبرر القتل والطرد والقمع والإبادة عبر استخدام خطاب ديني قروسطوي. لذا لا نعجب من مواقف وزراء إسرائيليين يعلنون دعمهم للجندي القاتل. ولحملات التأييد للقاتل الذي بدأ يصّور بصفته ضحية! هذا هو المنطق الإسرائيلي السائد اليوم فلقد مضى الزمن القديم حيث كانت صورة الضحية اليهودية ممحاة للجريمة الصهيونية. مضى زمن القيم الليبرالية التي شكلت غطاء للتلاعب بالصورة وأتى زمن الحقيقة العارية حيث تتطابق الصورة مع الحقيقة وتتحول الجريمة إلى بوصلة الاحتلال الوحيدة. والمفارقة أن هذا الزمن يأتي مع موت الرأي العام العالمي وعدم اكتراثه ومع تراكم الكوارث العربية التي يمتزج فيها الاستبداد المتوحش بوحشية الأصولية الداعشية واشباهها بحيث تتم محاولة تدمير المبنى الأخلاقي برمته ليحل في مكانه شعور باللامعنى وبتفاهة الجريمة. هذا هو التحدي الفلسطيني اليوم التحدي ليس أن نقوم بفضح ممارسات إسرائيلية تفضح نفسها ولا تبالي بل في تقديم بديل أخلاقي- سياسي للحظة هذا الانزلاق المخيف إلى هاوية الموت داخل الأساطير الدينية المتوحشة. وهو تحد مقياسه الممارسة وبلورة معنى جديد يعيدنا إلى أفق المقاومة باعتبارها فعلاً أخلاقياً يدافع عن القيم الإنسانية.