على خطاهم نسير.. شخصيات خالدة أبو القاسم سعد الله.. شيخ المؤرخين الجزائريين بقلم: سامي بن كرمي جُبِل البشر على حب المال يَكَد أحدنا ويَجِد من أجل جمع قوت عياله. إن تمكن من ذلك كد وجد من أجل جمع ما يلبي به رغباته. إن تمكن من ذلك كد وجد من أجل جمع ما يضمن به مستقبله إن تمكن من ذلك كد وجد من أجل جمع المزيد وإذ أن لكل أجل كتاب فلا مناص من الفراق فراق المال وفراق الأهل البعض يتحرى في التكسب والبعض الآخر لا يبالي وغيرهما لا رادع له والكل يوَرِّثُ تَرِكَتَهُ لغيره. الأمثلة كثيرة والشواهد أكثر بين عشية وضحاها يتمكن الواحد من الانسلاخ من براثن العوز إلى فُحْشِ الثراء ولا مُسَائِل. الكل يرى حوله نماذج لذلك في بلدة صغيرة يُحكى عن موظف بسيط يتنقل كل يوم ويومين بين محل ومحل فيشتري في كل واحد منها بقيمة ربع راتبه لا يريد أن يعرف الناس قيمة مشترياته. والكل يعرف قيمة مشترياته ولكن لا أحد يبالي. سُئلَ أحدهم كيف تمكنت من جمع ثروة طائلة كهذه فقال مثلي مثل أي مواطن بسيط ابتدأت من الصفر وأسست لمشروع ونجحت فيه. إلا أنه نسي أن يذكر أنه فلان ابن فلان وأن اسمه مفتاح لكل الأبواب إلا أبواب الجنة. يرحل كلهم ولن يبقى إلا ذكراهم. هذا يُوَرِّثُ مالا وذاك يُوَرِّثُ عارا والآخر يُقْرَنُ اسمه بأقذر الصفات. بينما الفالح الناجح من وَرَّثَ خلفه تركة تستفيد منها البلاد والعباد. ألم يقل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (أو علم ينتفع به). فلنقارب بين من أفنى عمره وكرس ما يفوق السبعين سنة في العطاء والعلم والتعليم وغيره. لم يترك لأهله بل ترك للجزائر كنزا غاليا لا يقدر بثمن حصيلته 53 مؤلفا اختص في التاريخ الحديث والقديم. يكنى بشيخ المؤرخين الجزائريين. أبو القاسم سعد الله شخصيتنا لهذا الأسبوع تنوع وثراء علمي تنوعت أنشطة أبو القاسم سعد الله بعد ذلك إذ شغل عددا من المناصب متنقلا بين جامعات عالمية. إذ عمل أستاذا زائرا بقسم التاريخ في جامعات منيسوتا وميشيغن وأستاذا مساعدا في التاريخ بجامعة ويسكنسن أوكلير بين 1960 و1976. كما شغل منصب أستاذ للتاريخ بجامعة الجزائر منذ 1971 وجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية وجامعة دمشق وجامعة عين شمس ومعهد البحوث والدراسات العربية في مصر. أما بين سنتي 1996 و2002 فعمل أستاذا للتاريخ في جامعة آل البيت بالأردن. وقد لخص مسيرته حينما أجاب على سؤال طرح عليه فقال: (قمار مطلع الفجر ووادي سوف واحتي الوارفة والزيتونة مهد العلم والأدب ودار العلوم بيت سدنة اللغة العربية والدراسات الإسلامية الرصينة وبن عكنون جنتي بعد عذاب الغربة... ومنيسوتا نقطة التقاء حضارتين عندي (حضارتنا وحضارتهم) وآل البيت تجربة الجمع بين تراث الشرق ومنهج الغرب... اختص سعد الله في تاريخ الجزائر القديم والحديث إذ كتب عددا كبيرا من الكتب أصبحت مراجع للباحثين والمهتمين. أولى سعد الله اهتماما كبيرا بالتاريخ الثقافي للجزائر وذلك حرصا منه لإثبات أن للجزائر ماض ثقافي عميق فكتب (موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي) في 9 مجلدات و(أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) في 5 أجزاء. كما أصدر كتبا في تاريخ أوروبا المعاصر والحديث وتاريخ المغرب الغربي الحديث والمعاصر بالإضافة إلى تاريخ الدولة العثمانية منذ سنة 1300. مزج الدكتور أبو القاسم سعد الله في أعماله ما بين انتمائه الروحي للعروبة والإسلام وبين الحضارة المدنية التي غرف منها. فعرف كيف يستفيد في الفاعلية بالأصالة وفي الأصالة بالفاعلية. فكان متميزا في مواقفه وكتاباته إذ أعطى روحا جديدة أصبحت مثالا يحتذى به لكل من عرفه أو احتك به فكان مدرسة قائمة بذاته أثرت إيجابا على جيل من الباحثين والمهتمين بالمواضيع الكبرى التي عمل عليها. رجل خاص في بعض من كتاباته ومن بين مواضيع كثيرة حول واقع حياته اليومية والتجارب التي مر بها طيلة حياته كان للدكتور سعد الله نظرة انتقادية لواقع المثقف والثقافة في الجزائر حيث كتب عن ذلك قائلا: فبلادي تهين المثقف ولا تعترف بالعامل المفكر كتبي لا تطبع وهي مخطوطة الجو العلمي ميّت ومميت كما قال عن الجامعة الجزائرية (ما أكبر الفرق بين جامعات أمريكا وجامعة الجزائر هنا لا نظام ولا قانون ولا احترام ولا تعارف بين الأساتذة ولا تسهيلات مادية أو أدبية). وقف أيضا على قلة اهتمام الشارع الجزائري بالثقافة والتعليم واشتكى التهميش الذي فرضته السلطة على العلماء والمثقفين. كما تحدث عن التعريب وسياسات التخبط التي كانت تعيشها السلطة في هذا الشأن ومحاولات البعض عزل البلاد عن واقعها العروبي والإسلامي. كما نظر بعين السخرية إلى الثورة الثقافية التي حركتها السلطة آنذاك وتغاضيها عن المشاكل الحقيقية التي كان يعاني منها المجتمع الجزائري وعرج على بعض من هذه مثل تصنيف مدننا ضمن الأقل نظافة في العالم وتدنّي معدلات القراءة ناهيك عن استفحال آفات العنف والتخريب والنهب والرشوة والدعارة والتسوّل والمخدرات والخمور والقتل والسرقة وانتهاك البراءة والشذوذ الجنسي وإسفاف الأخلاق وتدهور الحسّ المدني والعودة القوية للأمية ونزيف الأدمغة. فكان يشكو مثله مثل الكثير من واقع الأمة وصيرورتها التي ما كان أحد يتصوره في ظل الاستقلال وأحلام من ضحوا من أجل ذلك بالنفس والنفيس. عرضت عليه مناصب كثيرة رسمية ومنها وزيرا للشؤون الثقافية في حكومة قاصدي مرباح ولكنه اعتذر عن ذلك لرغبته للتفرغ للبحث والكتابة من ناحية ولإيمانه بضرورة ضمان حيادية المثقف من ناحية أخرى. فعاش زهيدا بسيطا وسط الناس مشاطرا همومهم ومعاناتهم. وقد كتب عن نفسه في رسالة لصديق له سنة 2010 قائلا:(وللحقيقة أقول إنني أستغرب من نفسي عندما أتأمل ما ضمنته من مصادر ومعارف وآراء.. كيف استطعت أن أكتب وحدي عملا مثله في وقت كنت فيه في حاجة ماسة إلى توفير الحد الأدنى للعيش مع عائلتي في بلاد الغربة ولكن يومياتي ستفصل كيف كنت أصارع من أجل لقمة العيش بينما أكتب التاريخ الثقافي فصلا فصلا تحت وطأة الألم والمعاناة والقلق والخوف من المستقبل. ومن جهة أخرى تقدمت منذ خمس سنوات إلى مختلف الوزارات والمراكز المعنية بالبحث... أطلب منحة تفرغ مدة ستة أشهر في بلاد أجنبية لكي أرجع بالبحث في التاريخ الثقافي: من الفتح الإسلامي إلى فاتح العهد العثماني فلم تستجب أية جهة أليس هذا مما يسبب الإحباط واليأس؟. أليس هذا يسبب الإحباط واليأس؟ وهو يعرف أن غيرنا وفر كل شيء لمثقفيه وما مثال هولندا ببعيد وهي التي فرغت سنة 1976 أستاذا مختصا لديها مدة سنتين لكتابة التاريخ الاقتصادي في اليمن. كان بإمكانه أن يفعل ما فعله غيره من جيله مثل زميل له في رحلته الأمريكية لا زال يصول ويجول طالبا البركات كان بإمكانه أن يكون أغنى الناس وفي أعلى الدرجات إلا أنه آثر إخلاص النية مع العيش الرغيد مقرونا بالعطاء الوافر فوفقه الله تعالى ويسر له الأمور. ويا له من اختيار. بعد سنوات من العطاء المنهمر قضى فيها عمره من أجل وطنه جاءت ساعة رحيل الدكتور أبو القاسم سعد الله يوم 14 ديسمبر 2013 توفي بالمستشفى العسكري عين نعجة بعد صراع مع المرض ودفن في مسقط رأسه في قمار. جُبِلَ البشر على حُبِّ المال بينما جُبِلَ أبو القاسم سعد الله على حب وطنه. يُوَرِّثُ كل منا ما جمعه لبنيه وأهله بينما ترك هو إرثا للأمة الجزائرية لا يقدر بثمن. بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الدراسات والأبحاث فاقت ال 53 كتابا ومجلدا ترك جيلا من الباحثين درس على يديه ونهل من بحر علمه. رحمه الله تعالى وجزاه أحسن الجزاء عن الجزائر وأهلها.