بقلم عبد العزيز كحيل* يتساءل الناس ما الحلّ؟ ومن حقهم بل من واجبهم أن يتساءلوا ليكونوا جزءا من هذا الحلّ بشكل من الأشكال ومن مختلف المواقع. لا بدّ ابتداء من تسجيل تعلّقنا القوي بالأمل والتفاؤل مهما حاصرتنا الأزمات لأن ذلك مستمد من ثقتنا بالله تعالى الذي يسيّر الكون ويأذن بالتغيير حين تجتمع أسبابه والثقة بأنفسنا شرط أساسي لمواجهة التحديات فالتركيز على تشخيص الأدواء لا يعني بحال التشكك من الإصلاح ولا الاستغراق في اليأس. يقتضي المقام ان أنبّه على أننا تعلمنا من المنهج القرآني ومن الهدي النبوي معادلة تبدو صعبة أو متناقضة لكنها عين الصواب وهي الصلابة في المبدأ والمرونة في التطبيق المثالية تجعلني أتتبع مواطن الخلل بلا هوادة والواقعية تقودني إلى مساحة الممكن فقد عايش الرسول صلى الله عليه وسلم _ وهو يحمل لواء الحق ورسالة السماء الخالدة _ غير المسلمين في الدواة التي أقامها وعاش الطرفان حياة طبيعية إلى أن غدر اليهود وحملوا السلاح ضد مواطنيهم المسلمين وانحازوا للأعداء المهاجمين وإنما حدث ذلك بناء على اعتماد قاعدة ذهبية في علم الاجتماع السياسي هي حسن تسيير الاختلاف بين مكونات المجتمع الواحد وفي خلافة علي رضي الله عنه واجه معارضة سياسية شرسة تمثلت في الخوارج لكنه تأقلم مع الوضع وبقيت تلك المعارضة جزءا من المجتمع إلى أن مالت إلى الخيار المسلح فواجهتها الدولة. بيت القصيد في المجتمعات المعقدة هو إذًا تسيير الاختلاف بأكثر الطرق الممكنة في العدل ورفض العنف وها هي الدول المتقدمة لم تزدهر إلا بعد اهتدائها إلى هذا الحل الذي جلب لها الاستقرار (تضمنه مؤسسات قوية) فاشتغلت بالإقلاع الاقتصادي والرقي الحضاري وهذا هو الحلّ المنشود عندنا. يجب الاقرار بحقيقة لا مراء فيها هي أن المجتمع الحديث _ والجزائر نموذج ماثل _ كيان معقد من حيث التشكيل والتسيير وهذا أمر طبيعي في ظل الموروث الاستعماري من جهة وهيمنة العولمة من جهة أخرى ووحدته لا تعني أبدا عدم وجود اختلافات: هناك إسلاميون ووطنيون وعلمانيون هناك عرب وأمازيغ هناك معربون ومفرنسون هناك سلفيون وإخوان وصوفية هناك أعداد غفيرة لا انتماء لها إلا بالولادة هناك سلطة حاكمة من الغباء إنكار ضخامتها فضلا عن وجودها وشعبٌ متنوع الموقف منها فما العمل ليستمرّ المجتمع في وجوده وحركته وسعيه إلى تحقيق آماله؟ الذي جربناه منذ الاستقلال يتراوح بين إنكار الاختلاف تماما باسم وحدة إيديولوجية وهمية وبين تضخم الذات وإنكار الآخر أو بين تزكية كل طرف لنفسه وشيطنة الطرف الآخر وسرنا في هذا النهج عقودا حتى وصلنا إلى النتيجة المؤسفة الحتمية وهي الاحتكام إلى السلاح في تقاتل جنوني خارج عن منطق الانتماء لوطن واحد. يبدأ الحلّ في الاقرار بضرورة التعايش مع وجود الاختلاف لنصل إلى الوضع الصحي الممتثل في اختلاف التنوع الذي هو سنة ماضية في خلق الله ويكون ذلك في إطار نظام ديمقراطي يمثل الشعب بجميع توجهاته ويحتكم عبر الصناديق إلى قاعدة الأغلبية والأقلية كما هي مطبقة في البلاد المتقدمة لكلّ طرف حقوق وواجبات دستورية فيحدث التداول السلمي بين مختلف المكونات بواسطة الاختيار الشعبي الدوري هنا تتراجع ممارسات الاتهام والتخوين والإقصاء وتترك المكان لطرح الأفكار والإقناع بها واقتراح البدائل وستظهر حينئذ القواسم المشتركة بين الأطراف المتنازعة وتلتقي حتما في مساحات متعددة للتعاون حتى مع احتفاظ كلّ طرف بمرتكزاته الإيديولوجية والفكرية والسياسية وغيرها. هذا هو الجوّ الصحي الذي أدعو إلى التعاون على إيجاده لأنه نافع للمجتمع كله أي لنا جميعا لنخرج من منطق المواجهة في كل شيء إلى منطق فنّ الممكن والبحث عن مجالات التفاهم في أيّ مجال ويبدأ ذلك حتما بإدخال آليات الحوار بقوة في جميع نواحي حياتنا بدءا بالبيت فلم يضرَّنا شيء كالفوقية والتسلط وعدم الاستماع للآخر حتى لو كان ابْنا أو زوجة وقد تعلمنا من الهدي النبوي الكريم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا تحاور مع أحد زعماء قريش أو غيرهم - أي من نسميهم الآن (الآخرين) لم يقطع عليه حديثه أبدا بل يصغي إليه فإذا سكت المحاور لم يتكلم حتى يتأكد منه أنه أنهى حديثه هذا ليس مجرد أدب رفيع بل هو آلية متقدمة فعالة في التعامل الإنساني المجتمعي والسياسي من شأنه تيسير التواصل وصولا إلى التفهم حتى النسبي إذا تعذر التطابق. بقي أن أقول إني لا أقدس الاختلاف وإنما أعترف به واقعا قائما وإنكاره جلب لنا كل أنواع الأزمات والمصائب والسعي إلى وحدة الصف غاية كبيرة تتمّ عبر حسن تسيير هذا الاختلاف بإشاعة الحرية والتعايش الإيجابي ونبذ العنف والقمع الفكري وقطع الصلة بالإقصاء لأنه آفة الآفات والعقبة الكأداء في طريق الإصلاح والرقي لتكون الكلمة النهائية دائما في الخيارات المصيرية للشعب السيد عبر مؤسسات صلبة كما هو في الغرب. هذه مجرد شذرات ومعالم في طريق الحياة السياسية والاجتماعية التي نتمناها.