موقف لطيف جرى بين عالمين جليلين فقد اجتمع يومًا ابن حزم الأندلسي الفقيه الظاهري مع أبي الوليد الباجي الفقيه المالكي وجرت بينهما مناظرة سنة 440 من الهجرة فلما انقضت المناظرة قال أبو الوليد الباجي لابن حزم : تعذرني فإن أكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس . فأبو الوليد الباجي كان فقيرًا لا يجد مالاً لا يجد مصباحًا في بيته فاعتذر لابن حزم لأن قراءته ومذاكرته وطلبه للعلم كان على مصابيح الحراس فالحراس كانوا يمشون في الليل بمشاعل لحماية البلاد من اللصوص فكان هو يسير وراءهم يقرأ في الكتاب ويذاكر على ضوء مصابيح الحراس . سبحان الله العظيم !! وهذا بقي بن مخلد المحدث المشهور صاحب المسند وهو أكبر من مسند الإمام أحمد بن حنبل الشاهد قال لتلاميذه يومًا : أنتم تطلبون العلم !! إنني كنت أطلب العلم فلا أجد ما أتقوت به فأجمع من على المزابل أوراق الكرنب الخضراء لآكلها وأتعشى بها حتى أتي اليوم الذي بعت فيه سراويلي من أجل أن أشتري أوراقًا أكتب بها وجلست بلا سراويل . ومن ثمَّ كان السلف رضوان الله عليهم يؤثرون الفقر ويرونه أفضل لحال المرء ويبتعدون عن طرائق الترف والمترفين وكانوا يرون الغنى مضيعة للعلم وضياع العلم ضياع للدين . قال ياقوت الحموى : فالغني أضيع لطلب العلم من الفقر . قال بعض المحققين : كثرة المال وطيب العيش تسد مسالك العلم إلى النفوس فلا تتجه النفوس إلى العلم مع الترف غالبًا فإن الغني قد يسهل اللهو ويفتح بابه وإذا انفتح باب اللهو سد باب النور والمعرفة فلذائذ الحياة وكثرتها تطمس نور القلب وتعمي البصيرة وتذهب بنعمة الإدراك أما الفقير وإن شغله طلب القوت فقد سدت عنه أبواب اللهو فأشرقت النفس وانبثق نور الهداية والله الموفق والمستعان . بل كان من سلفنا الصالح من يعد الماء البارد من أعظم المنن التي إن لم يستوفَ شكرها فهي لا تصلح لأمثالهم فيهجرون الشرب من الماء البارد فنأمل ذلك وعليها فقس فبأي آلاء ربكم تكذبون يا معشر المسلمين اليوم .