حضور الأساطير اليونانية في الشعر الفلسطيني - شعر عز الدين المناصرة أنموذجا- بقلم: وليد بوعديلة - الجزء الأول- + صورتين استدعى الشعر الفلسطيني الأساطير الشرقية و اليونانية بحثا عن كثير من الدلالات والرموز وهو شان الشاعر عز الدين المناصرة فقد وظف بعض الأساطير اسمًا أو صفةً وذلك في سياقات شعرية مختلفة وهي تحضر في مشاهد شعرية متألقة تقول مشاعر وأفكار الشاعر وتكشف تفاعلاته مع قضايا وطنه وأمته. وهذه وقفة نقدية تبحث في بعض الأساطير اليونانية في شعره. 1- إيكار: قد تتجلى الأسطورة انطلاقًا من عنوان القصيدة كما هو الشأن في قصيدةً (تشمع كبد إيكار) حيث يوظّف أسطورة (إيكاروس) وهي أسطورة يونانية معروفة تقول بأنّ (ددال) أب (ايكار) صنع متاهة لأحد الملوك ولم يستطيع الخروج منها فصنع أجنحة وألصقها بالشمع وطار وقد حذّر ابنه من التحليق قُرب الشمس لكنه لم يسمع أمر والده واقترب فذاب الشمع وسقط في الماء ومن هذه الأسطورة ينطلق الشعر: بيني وبين إيكار...مسافاتٌ ضوئية ومع هذا فنحن نلتقي في نقطة واحدة من العالم ليلاً دون أن يرانا أحدْ رغم أن الليل في بيروت مثلاً ليس شرطًا لستر الأسرارْ يعترف الشاعر بالبعد الزمني بينه وبين رمزه الأسطوري كما يحيلنا _ في العُمق- إلى الاختلافات الأُسطورية والحضارية بين الحضارتين الشرقية واليونانية لكن لا ينفي الالتقاء بل إنه يوجه القراءة نحو العلاقة التفاعلية القوية جدًا بين الشاعر وإيكار لتتهدم المسافات الزمنية والحدود المكانية والقيود التاريخية- الثقافية بينها وكأنّ الشاعر هو المناصرة/ إيكار وليس المناصرة/ الإنسان العادي وهذا التصوير هو جوهر التوظيف الأسطوري الناضج وهو ما دافع عنه المناصرة نقدًا بحرصه على الالتحام بين الموروث- الأساطير وبين القصيدة مع عدم جعل الأساطير ملصقات في الجسد الشعري. فعبر ذلك الأفق ينتقل الشعر من البساطة والسطحية إلى العُمق والغرابة قصد قراءة واعية للماضي والحاضر والمستقبل فتكون العودة إلى الذاكرة عودة تأمل واكتشاف لا عودة غرق فيه أو انبهار به. وعندما نعود إلى تفاعل المناصرة مع الذاكرة الأسطورية اليونانية نجده يواصل بناء نصه الشعري على النمط الأسطوري نقرأ بقية حواره مع إيكار وعناصر تشابههما: هو غريب الأطوار فعلتُهُ خطأ لا يتكرّر كالديناميت هكذا قال لنا المدرب وهو قبل فعلته كان مُصابًا بتشمعُّ الكبد كان ذلك سرًا للمُقرّبين فقط يُحيل الشاعر إلى بعض عناصر الأسطورة من قبيل غرابة موقف إيكار وعدم أخذه بنصيحة والده عند الطيران في السماء وهو موقف ستكون نتائجه وخيمةً وخطيرةً ومن ثمة تتجلىّ لنا عواقب سوء التخطيط وسيكون السقوط هو نتيجة الاقتراب من الشمس ولا يكتفي الشاعر بتقديم الأسطورة فقط وإنّما هو ينجز فعلاً شعريًا- أسطوريًا يلتقي فيه الحاضر الفلسطيني بالذاكرة اليونانية ويشكّل صورة بلاغيةً عن المناصرة/ إيكار نقرأ: هو سيحترق بشمسه و أنا سيُذوّبني المنفى هو يتحّد بعباءة العُشب السماوي وأنا أتحلَّلُ في تراب المنافي الصخرية تلك مشيئة عدم التخطيط يا إيكاروس هل تصدقني الآن أيُها المرحوم؟!! هل تصدق ؟! يقترب الشاعر من تحدّيات الوطن وجراحات الإنسان فإيكار احترق بالشمس والشاعر يحرقه المنفى الأول يتناثر بين فضاءات السماء والثاني ينحل في أعماق أرض غير أرضه وتربة ليست تربة أجداده والسبب الذي يحرقهما واحد إنه عدم التخطيط لكن السبب عند الشاعر الفلسطيني لا يقتصر على ذات/ وعي الإنسان الفرد فقط وإنّما يشمل الجماعة بأسرها. وهنا يقدم الشاعر موقفه السياسي في ثوب شعري. و يتأمل الراهن عبر عيون الأسطورة ويحلّل المشهد التاريخي المعاصر دون أن يقع في فخّ المباشرة والتقرير وهذا لا يتوفر إلاّ للممارسة الإبداعية فهي (تعبّر عن نفسها بقدر من الوضوح والتبلور وتمتلك من المرونة ما يسمح لها بتصحيح ذاتها ومن التأمل والتحليل ما يهيئ لها تحديد الأهداف ومن الشجاعة ما يجعلها تعلن عن نفسها وتدافع عن طروحاتها) وتكشف الأخطاء وتصوّر النتائج سواء كانت انتصارًا أو انهزامًا وهي عندما ترتبط بتربة الأرض الفلسطينية تتخذ مسارات ملحمية تطمح إلى فتح يوميات الصراع مع المحتل وعناق المشاعر والتصوّرات الخافقة بالشجاعة والبطولة وقراءة المرجعيات الثقافية والممارسات الشعبية لتجنب الاحتراق في الداخل أو الخارج بالقرب من الوطن أو بعيدًا عنه. يتخذ الشعر- بذلك التصوّر- من أسطورة إيكار شعلةً تنير الدرب المظلم وتفضح التصورات الخاطئة كي لا يتجدّد الاحتراق بلهب الشمس وكي يتجنب إيكار فلسطين سوء تخطيط إيكار اليونان ويصبح الشعر _ هكذا- احتفالاً ثائرًا وصارخًا يرفض السقوط في مشاهد الحزن وأنغام المنفى وأشواك الغربة و يؤسّس لمشاهد الفرح وأنغام العودة وورود الوطن. فبعدما تعمق الشاعر في الأسطورة اليونانية اختار التفاعل معها لأجل قراءة واعية للجرح الوطني فيتحقق الاختلاف الفكري للأصل الأسطوري... إن القصيدة تخفق بأسئلة الخلفية الأسطورية والراهن الفلسطيني رغم المحاولة الشعرية لتجاوز ظاهر الأسطورة قصد الوصول إلى روحها وهذا لا يتحقق إلاّ لشعر يحسن التوظيف الأسطوري وشاعرنا استعان بتقنية التحويل التي تستعين بأسطورة (إيكار) وتوظفه اسمًا ودلالة ونجد في العُمق الشعري أنّ (حضور أسطورة إيكار هو حضور لانفعالات ورغبات متصارعة تتناوب بين الرغبة في نشدان المستحيل ومحاولة التغلب على النقص وبلوغ الخلاص أو الخروج عن طبيعة وقدر بالتحليق كطائر في السماء بعيدًا حيث تحلّق الآلهة الإغريقية فكان المصير سقوط في العدم). وهكذا يتداخل الراهني بالأسطوري ويواصل المناصرة بحثه عن لحظة شعرية تتعانق فيها المشاعر والتصوّرات الإنسانية والأسطورية لكي تكون الأسطورة- بكل دلالاتها- ضوءًا يُوجِّه الإنسان في تحركاته وفي بحثه عن الخلاص والحرية وتلك هي الرؤى التي قدّمها (إيكار) للشاعر. 2- أندروميدا: وقد وظّف المناصرة أسطورة أندروميدا في قصيدته (صخور أندرميدا) وهي امرأة قدمت كقربان لبوزيدون الذي كان يرعب الناس فوضعها مشدودة إلى صخور الشاطئ قبل أن يأتي (برسة) ويحطم سلاسلها ويقتل الوحش الحارس لها ثم يتزوجها وهي ترمز للتضحية من أجل الغير- الوطن. إذا عدنا إلى القصيدة نجدها تتضمن جملة من الموضوعات هي على الترتيب: 1- الأرض/ الذاكرة الشعبية 2- الصخر/الصيد 3- أندروميدا/ الصخر 4- فك السلاسل 5- العودة/الأرض ومن ثمة فهي قصيدة دائرية تنطلق من الأرض وتعود إليها وبين البداية والنهاية يتأمل القارئ مشاهد أسطورية وحنينًا إنسانيًا وشوقًا إلى علامات الأرض والتاريخ. يقول الشاعر متحدثًا عن أندروميدا الجمال والأسطورة: أندروميدا مربوطة بالسلاسل في الصخور السوداء البحر ذليلٌ عند قدميها تتباهى بأجنحتها وضفائرها أعطنا مما أعطاك البحرُ تلومنا الشمس والبحر زعلانٌ علينا غمامة العطر تهبطين فوق الموجه يمزج المناصرة جمال هذه المرأة بقوة تأثيرها فهي لا تسمو بجمال الشكل فقط وإنما بجلال المجد أيضًا فرغم أنها مقيدة بالسلاسل في أعالي صخور الشاطئ إلاّ أن البحر يريد عناقها والصعود إليها في صورة شعرية بليغة راقية يكون فيها هذا البحر ذليلاً عند قدمي (أندروميدا) بل إنها تسقي بعطرها الساحر أمواج البحر فتتخذ _ هكذا- مسارات العجائبي والمدهش وكأنّ الجمال والجلال هما اللّذان يُشكّلان صورة كل من يتقدم قربانًا من أجل أهله ووطنه. ويتماهى النص الشعري في الأسطورة وتتلاحق العناصر الأسطورية أمام القارئ: يا جميلة الجميلات يا ابنة الصخر والبحر والريح لك الملك أيتها المربوطة بجذور الشجر تتبجّحين بعنفوانك ها أنت تذوقين المر آتيك كصقر مخالبُه تنبشُ الصخر أفكُ سلاسل آلامك لهذه المرأة الأسطورية كل إيحاءات الدهشة لأنّها عانقت الصخر والبحر واختارت أن تكون قربانًا لكي تعاني أو تموت لكن قصد ضمان سعادة وحياة أهلها وهي دلالة التضحية والتنازل عن سلطة الأنا والشاعر وجد في الرمز الأسطوري (أندروميدا) تعبيرًا عن التضحية بخاصة عندما ينفتح الشعر على التضحية/ المرأة فتكون الدلالة هنا أكثر إشراقًا وإضاءة في النص. ولأن (أندروميدا) قامت تشكيل صورة التضحية يختار الشاعر/الإنسان الفلسطيني أن يغامر وينطلق في سفر بطولي يطمح من خلاله إلى فكّ سلاسل الوجع والمعاناة عن جسد/روح هذه المرأة الجميلة وفي ذلك إشارة شعرية إلى المرأة/الأرض... وهنا ينفلت الشعر من أحادية المعنى ويتسع أفقه الجمالي- الدلالي كما قد تتسع القراءة لتربط بين المرأة والهوية الفلسطينية وصورة من صور التحدّي الحضاري الذي يأتي من عُمق التاريخ والذاكرة لينفتح على جراحات الراهن وعذابات الإنسان والأرض في ظل الوجود الصهيوني. لقد عاد الشاعر إلى الأسطورة اليونانية وتأملها فوجد فيها الكثير من التجلّيات التي تسعفُه في مكاشفة عواطفه ومعانقة وطنه فاختار توظيف (أندروميدا).. كما اختار أن يكون الفارس الأسطوري المنقذ حتى لو اقتضى الأمر أن يُقتل وأن تكون قطرات الدم الفلسطيني هي القٌربان لأجل أن تعود (أندروميدا) إلى أهلها فلا يكتفي الرمز الأسطوري هنا بحقيقته وإنّما هو يتحول ويتبدّل فتكون المرأة الأسطورية اليونانية هي المرأة الفلسطينية وهي _ كذلك- الأرض والهوية وكل رمزيات الانتماء ولا غرابة أن يربط الشعر الفلسطيني بين الأرض وبين الدم والنضال. يتبع..