هانز كونج.. عالم اللاهوت السويسري في ذمة ربه.. أسلمت سارة! لا المسلمين كسبوا! ولا النصارى خسروا! جنيف / سويسرا محمد مصطفى حابس: بحكم إقامتي بسويسرا منذ عقود وعلاقاتي الواسعة مع رجال الثقافة والدين عموما كاليهود والنصارى بحكم أني عضو ممثل لجاليتنا المسلمة منذ سنين في مجلس حوار الأديان السويسري اتصل بي في هذا الشهر الفضيل بعض مشايخنا وإخواننا من الجزائر ومن أوروبا خصوصا أمثال الشيخ صالح بوزينة والشيخ الطيب برغوث وغيرهما يطلبون مني كتابة كلمة تعريفية عن عالم سويسري إسمه هانز كونج Hans Küng عالم اللاهوت السويسري المعروف وأحد أكبر علماء اللاهوت الكاثوليك وأحد رواد البحث عن الحقيقة في عالمنا المعاصر بعد وفاته في هذا الشهر الفضيل.. وهنا وجب توضيح ما يلي أولا أن خبر وفاة العالم السويسري هانز كونج حقيقة معروفة للجميع وليست سرا وسمع بها كل الناس حيث تناقلته جل وسائل التواصل الاجتماعي المغاربية والعربية خصوصا نقلا عن بعض وسائل الاعلام الغربية والعربية الخليجية.. والخبر صحيح لا غبار عليه وأن الرجل توفي فعلا مع بداية هذا الشهر الفضيل بعد عمر زاخر من العطاء العلمي كما تناقلته وسائل الاعلام العربية والغربية إلا أن الامر الذي أستوقفني في هذا الخبر هو قولهم جميعا - أقصد العربية تحديدا- أن الرجل أسلم منذ سنوات ونقلت قصة إسلامه المزعومة عن مرجع كبير أكن له ولمؤلفاته الاحترام والتقدير للأمانة العلمية المعروفة لديه هو الدكتور راغب السرجاني - حفظه الله- نقلا عن كتابه عظماء أسلموا (1).. وما كنت أظن أن الدكتور راغب السرجاني ينقل في كتابه مثل هذا الخطأ الفادح أي قصة إسلام العالم السويسري هانز كونج؟ ولماذا أسلم؟ لا المسلمين كسبوا! ولا خسر النصارى! وعملا بالمثل اللبناني القائل: أسلمت سارة! لا المسلمين كسبوا! ولا خسر النصارى! أنا هنا لا أحب أن أنقص من قيمة الرجل العلمية ولا الدينية لكني فقط أحببت أن أصحح خطأ فادحا انتشر منذ أزيد من عقد في صفوف المسلمين مفاده أن الرجل اسلم! وهذا ليس صحيحا على الاطلاق.. من أكبر العلماء المعاصرين الذين لهم بصمات كبيرة في نقد المسيحية والبحث عن الحقيقة: صحيح أنه يعتبر من أكبر علماء اللاهوت الكاثوليك المعاصرين الذين لهم بصمات كبيرة في نقد المسيحية عموما كما يعد أحد رواد البحث عن الحقيقة كمسيحي فهو ينشد الحق أينما كان وبعد دراسات مضنية ومقارنات دقيقة في العقائد متحريًا الدقة الكاملة بعقلية يقظة وفكر يتوهَّج وذكاء متوقد ليصبح في عام 1986م مديرًا لمعهد الأبحاث المسكوفية في (توبنجن) بألمانيا. وبعد الدراسات التي أجراها والبحوث التي أعدها والمقارنات التي فرَّق خلالها بين حق جلي ّ وباطل خفي ّ توصَّل إلى أن الإسلام هو دين سماوي حقيقي وأن محمدًا رسول الله قد تلقى وحي الله وبلغه كما أمره الله لكن الرجل لم يشهر إسلامه وتوقف عند هذه الحقيقة ولم يخطو الخطوة الحاسمة ليشهر إسلامه فهل كان يخفي إيمانه الله أعلم لكن المعلوم علنا للعام والخاص في هذه الديار الأوروبية انه لم يتخلى يوما عن دينه كمسيحي ولو قيد أنملة. رغم ذلك لم يجد أشهر علماء اللاهوت في ألمانيا بُدًّا من إعلان الحقائق التي توصل إليها هانز كونج فالحقيقة يتحتم إظهارها إنصافًا للحق حسب نظرتهم للواقع مما نتج عن ذلك شجار وخلاف عنيف في البيت المسيحي وبدأ صراع بين حق ّ يريد أن يعلنه هو كأكبر علماء اللاهوت وبين رجال الأصولية الكاثوليكية الذين فوجئوا بعالم له مكانته العلمية الهائلة يدعو إلى إنصاف الإسلام والتصدِّيق برسالة رسول الإسلام حيث وصل الخلاف منتهاه مع بابا الفاتيكان بعد أن نشر كتابه الخطير المفصح عن الحقائق بأدلة وبراهين لا تقبل الشك ذلك الكتاب هو المسيحية والأديان الأخرى (2). الحجج الدامغة والبراهين الساطعة لقد كان من المثير حقًّا تأكيد هانز كونج تسليمًا ويقينًا جازمًا بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو رسول حقيقي بمعنى الكلمة وأن القول بغير ذلك زعم كاذب ووهم باطل يفتقر للبرهان. كما استطاع هانز الدفاع عن الإسلام ومواجهة أفكار الكنيسة وأن الكنيسة لا يمكنها أن تستمر بعد ذلك في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله تلقَّى وحي السماء وهو رسول حقيقي بكل معاني الكلمة. لقد استطاع هانز كونج أن يُقيم الحجج الدامغة والبراهين الساطعة التي لا يتطرق إليها أدنى شك على تفنيد حجج خصومه الواهية عن دين الإسلام ونبي الإسلام بل إنه - إنصافا للحق- طلب من خصومه الساخطين عليه في الكنيسة الكاثوليكية أن يحاولوا فهم الإسلام وأن يراعوا ضمائرهم ويؤدوا واجبهم ولو لمرة واحدة في حياتهم تجاه هذه الديانة العالمية التي طال تجاهلها. ويبدو أن القساوسة الكاثوليك قد استجابوا لهذه الدعوة بدراسة القرآن وفَهْم مبادئ الإسلام وعقائده فلما تبيَّن لهم أنه الحق اعتنق الإسلام اثنان من القساوسة تابعين (لأبرشية باريس) بعد اقتناعهما وتصديقهما بما جاء في القرآن(3) ولم يعتنق هانز الدين الإسلامي من جهته يومها. ماذا قال هانز كونج في مدح النبي الكريم في كتابه (4): أعرف أن كثير من الأفاضل كتبوا عن هذا الموضوع من قبل أي الاعتراف برسالة النبي محمد من طرف علماء الغرب فهو ليس بموضوع جديد الموضوع هو شهادات بعض عقلاء ومنصفي الغرب عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الجديد هنا هو عملية توثيق هذه الشهادات المعاصرة وترجمتها للعربية فكثيرا ما نسمع أن عالم المسيحية الفلاني أو المستشرق العلاني يمتدح النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا وهذا هانز كونج لم يشذ عن القاعدة حيث كتب قائلا: ((في حالة أصحاب الأديان الأخرى الشخصية التاريخية تميل لاكتساب كثير من الأساطير (بواسطة أتباع الديانة) ولكن هذا ليس صحيحا في حالة محمد)). وقال ايضا: ((انه من الخطأ نبذ الإسلام على أساس أنه دين النار والسيف بدون أن نعرف مادته الدينية. فإنه بلا شك أن العرب من خلال النبي محمد قد ارتقوا لمرتبة عالية من الأخلاق والدين مبني على الإيمان بإله واحد وأخلاقيات إنسانية أساسية))...((لقد كان محمد نبي أصيل بلا شك. في أمور كثيرة لا يختلف عن أنبياء إسرائيل. ولكن المسلمين يولون أهمية كبرى لحقيقة هامة وهي أن محمدا لا يقف في وسط الإسلام مثلما وقف يسوع المسيح في وسط المسيحية. حيث أن في الإسلام لم تتجسد كلمة الرب في شكل إنسان ولكن ظهرت ككتاب. والقرآن في نسخته الأصلية يقف مع الرب في وسط الإسلام)). من أبرز أفكار هانز كونغ (5): عارض كونغ بيروقراطيّة الفاتيكان المنعزلة وذاتيّة الدعم التي ترقى إلى مستوى النظام الاستبداديّ. حيث قال إن الفاتيكان أهمل لقرون مهمّته الروحيّة في أثناء سعيه إلى تكديس السلطة والثروة مع حكم البابا كملك مطلق. وشبّه أيضاً نمط الكنيسة في طاعة رجال الدين بتفكير القادة العسكريّين في ألمانيا النازيّة. وطالب كونغ بالسماح للكهنة بالزواج وأن يتمّ انتخاب الباباوات من قبل الكهنة العاديّين وليس عن طريق التصويت السريّ من قبل مجمع الكرادلة. كما دافع عن حقوق متساوية للمرأة في الكنيسة وقال إنّ تحديد النسل الذي تعارضه الكنيسة يجب أن يكون مسألة تتعلّق بالضمير الفرديّ. كما انتقد هانز كونغ مراراً وتكراراً البابا يوحنّا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر. كما أكّد كونغ أنّ مشروعه ليس بأيّ حال من الأحوال مجرّد بناء فكريّ معزول بل إنّه يسلّط الضوء على القيم الأخلاقيّة التي تلتقي حولها الأديان الكبرى في العالم على الرغم من كلّ اختلافاتها والتي يمكن أن يُنظر إليها على أنّها معايير صالحة - بالنظر إلى معقوليّة هذه المعايير المقنعة - بالعقل العلمانيّ. وأعرب كونغ عن موافقته على الجهود التي يبذلها البابا لصالح حوار الأديان حينما التقيا في اجتماع له معه لكنّه أوضح أنه اللقاء لم يتطرّق إلى قضايا أساسيّة مثل زواج الكهنة وكهنوت النساء ومنع الحمل والقتل الرحيم وغيرها. ورأى الفاتيكان أنّ كونغ يمثّل أخطر تهديد للكنيسة الكاثوليكيّة منذ مارتن لوثر الذي أدّى انتقاده للبابويّة إلى ظهور الإصلاح البروتستانتيّ ولم يتورّع عدد من المحافظين عن الإشارة إلى هانز كونغ باسم مارتن لوثر كونغ . العصمة البابويّة.. وأمور أخرى وقد كان كونغ قاسياً جدّاً في أحكامه على الكنيسة حسب زعم بعض ممثليها ففي 29 أكتوبر 2009 على سبيل المثال احتجّ مدير صحيفة الفاتيكان اليوميّة جيان ماريا فيان على مقال كتبه هانز كونغ بشأن الإعلان التاريخيّ الحقيقيّ من جانب الكرسيّ الرسوليّ للسماح بالدخول في شركة مع الكنيسة الكاثوليكيّة للعديد من الأنغليكان . وقد نُشر المقال الذي يحمل عنوان سياسة البابا تجاه الأنغليكان هي مأساة في صحيفة لوموند الفرنسيّة. وقد ذكر الرئيس السابق للمجلس البابويّ لتعزيز الوحدة المسيحيّة الكاردينال والتر كاسبر في العام الماضي رسالة شفويّة لهانز كونغ يذكر فيها أن هانز كونغ انتقد الفاتيكان بقساوة لكن في أعماق قلبه ظلّ دائماً ابن الكنيسة ولم يفكّر أبداً في تركها. لقد أراد أن يفعل الأفضل للكنيسة من الداخل ويبقى مسيحيّاً وكاثوليكيّاً. وقد ساعدت نظريّاته اللاهوتيّة التي نشرها بلغة واضحة ومفهومة الكثير من الناس في العثور على الإيمان أو البقاء في الكنيسة . أخيرا بتاريخ يوم 6 أبريل 2021 أعلنت Global Ethic Foundation جمعيّة الأخلاق العالميّة التي تسعى إلى تعزيز التفاهم عبر الثقافات والأديان عن وفاة مؤسّسها البروفسور هانز كونغ (1928-2021) اللاهوتيّ الكاثوليكيّ الليبراليّ الذي انتقد فكرة العصمة البابويّة في كتابه Infallible?: وفي اليوم التالي لغيابه غرّدت الأكاديميّة البابويّة للحياة أنّ هانز كونغ كان شخصيّة عظيمة في علم اللاهوت في القرن العشرين داعية له بقولها فلترقد روحك بسلام أيّها اللاهوتيّ العظيم الشجاع .!